٢٧) الحياةُ المسلوبـة.

Start from the beginning
                                    

لن أسامح من سلب مني حياتي، حياتي التي لم أعشها، ولم تعرف لي سبيلًا، والدان وإخوة، وبيتٌ وحضنٌ يُلملم بقاياي، ويملأ خوائي.

.... 
 
 
رأيته جالسًا على مقعد الحديقة متكئًا بذراعه على ظهر الكرسي شاردًا بأنظاره للأمام، اعتدل في جلسته حين رآني. 
 
"هل قرأتها؟ اعتقدتُ أنك أحرقتها حين مر أسبوع ولم تأتِ..". 
 
دسستُ يديّ في جيوب سترتي، وأنا أطلق بصري لكل شيء وأي شيء دون أن يهتديَ  لمُستقر. 
 
"سأستعيد كل شيء..". 
 
قلتُ أخيرًا، قاطعًا حبل الصمت الذي امتد بين سؤاله وجوابي، وقف قبالتي وقال: 

"آسف.. لا بد أن ذلك كان صعبًا عليك.. ".

"لم يعُد يهمني.. ".

تمتمتُ ببرود، تمعن في وجهي الذي بدا له أشد صقيعيةً منه قبل أسبوع، وقال أنه أخبر والده بتفاصيل قضيتي، والذي يعمل مدعٍ عام، فنبش في الملفات القديمة وأعاد فتح قضية مقتل أبي، لكنهم دُهشوا حين علموا أن بهاء توفي قبل سنوات، وحين استجوبوا أروى اعترفت بكل شيءٍ دون ضغطٍ من أحد، كأنها انتظرت أن تُستجوب لتعترف، وقُرِّر أن تُعقد جلسة محاكمةٍ في الأسبوع المقبل.

"احزم حقائبك لنعود للمدينة الساحلية.. ".

قال، مشيرًا إلى مدينتي، وعلمتُ أنها مدينته أيضًا لكنه جاء لجامعة العاصمة للدراسة، لم يُدهشني شيءٌ من كلامه، ولم يأخذني الحماس للعودة لمدينتي التي هجرتها منذ سنواتٍ طوال، استدرتُ بهدوءٍ لأعود دون إبداء أي تعليق ودون أن أتساءل عن اهتمامه، توقفت فجأةً ونظرتُ إليه ببرود وسألته:

"أنت..  ما هو اسمك؟ ".
 
طرف بعينيه عدة مرات ثم ابتسم وأجاب: 
 
"آسف، ثرثرتُ كثيرًا ونسيتُ أن أعرفك علي، اسمي عماد..". 
 
أومأت بشرود، وأكملتُ سيري وأنا أفكر لأي قدرٍ ابتسامته تشبه ابتسامة أحدهم. 
 
... 
 
 
تبقت ساعات وننطلق أنا وعماد إلى المدينة الساحلية، رافقني طوال ذلك الصباح دون أن يسألني إلى أين أذهب ولمَ.

كان يكبرني بعام، وتبقى عام على تخرجه من الجامعة، قدم عذرًا للتغيب عن الجامعة طوال أسبوع حتى يرافقني في رحلتي الأخيرة، لم أفكر أن أشكره على ما كان يفعله لي دون أن ينتظر مردودًا، ولاحقًا تخليتُ عن فكرة شكره، فذلك الشاب الفضولي سيغدو رفيقي لبقية حياتي. 
 
طرقتُ الباب في ترددٍ ودخلت وهو خلفي، لم أتعجب حين نالتني نظرات الدهشة منهما. 
 
"لن أجد عذرًا لائقًا أقدمه لك..". 
 
قلتُ لمؤيد الجالس خلف مكتبه، يحتسي الشاي مع خاله رافع الذي كان جالسًا على الجانب الآخر من المكتب. 
 
"ما مررتَ به ليس سهلًا..". 
 
قال مؤيد، الذي كان طوال فترة عملي معه كأخٍ لي. 
 
"أشكركما على كل ما فعلتماه لي..". 
 
ابتسما بمودة، ليقول مؤيد وقد فهم لتوه: 
 
"هل ستستقيل؟". 
 
"نعم، سأعود إلى مدينتي..". 
 
تأسف مؤيد لأنه سيُفارق مساعده الذي كان له كيده اليُمنى، لكنه أومأ بتفهم وقال لي رافع وهو يغمز بعينه: 
 
"مكتبي مفتوح لك دائمًا لو أردت أي نصائح لتفتح مشروعك، ولكني لا أقدم التخفيضات لأحد..". 
 
ضحك هو وابن أخته،  ووعدته بأن مكتبه سيكون الوجهة الأولى لي، استدرتُ لعماد الذي كان يراقبنا بصمت وأشرت له بأن نتحرك، فتبعني بالصمت ذاته.

أشِقّاءWhere stories live. Discover now