٢١) اِختفـاء.

Start from the beginning
                                    

حوَّل رافع المحل إلى مكتبٍ للاستشارات الاقتصادية،  وفهمتُ من مؤيد أن أي أحد يرغب في فتح مشروع بمقدوره زيارة مكتبه لأخذ النصح والمشورة منه بناءً على خبرته وعلمه الواسعين في السوق مقابل أثمنةٍ زهيدة، فرِحتُ لأجله، لم يذهب شغفه أدراج الرياح، رغم أن الكثير من عمره راح،  إلا أن بوسعه أخيرًا إيجاد من يُثرثر عليه بأريحية دون أن تناله نظرات الضجر التي كان ينالها مني.

تناولتُ سترتي السوداء من ظهر كرسي المكتب وارتديتُها وغادرتُ واعدًا مؤيد أن آتي باكرًا صباح الغد.

....

شددتُ توثيق سترتي الصوفية حول جسدي أتقي بها قسوة الرياح التي تعوي بلا رحمة، الناس هامدون في بيوتهم في هذه الساعة، يعمدون إلى أجهزة التدفئة والموائد والأحبة، ينشدون الدفء والحب والأمان ويتبادلون أحاديث الليالي الغابرة، يتحدثون، ويضحكون، ويأكلون ما طاب من أطعمة الأمهات والجدات.

الليالي الدافئة.. ما أجملها.. وأبعدها. 

لم أعلم أن شتاء تلك المدينة يُضارع البلاد البعيدة في بأسِه، ففي مدينتي التي تُصافِح أبنيتُها شاطئ البحر، كان الشتاء شحيحًا والصيفُ طويلًا، وباقي الفصول تمُر كمَرِّ السحاب. 

انتبهتُ أنني وصلت عند باب الشقة، وومض في رأسي منظر المفتاح على سطح المكتب، نسيتُه! 
مددت يدي وطرقت الباب متمنيًا ألا يكون أمجد نائما فأقضي الليلة في الممر، لتكون نهايتي على براثن البرد والجوع والفقد. 

فُتح الباب، فرجعت خطوتين للوراء أتأكد من رقم الشقة، هذه شقتي دون شك، رسَمَت ذات الوجه المدور ابتسامةً واسعةً وهي تُفسِح لي لأدخل. 
نقرتُ جبينها وأنا أتساءل بعجب: 

"ماذا تفعلين هنا..؟". 

دلكت جبينها بأصابعها وهي تجعد وجهها بصبيانية، وأشارت بعينيها لما خلفي، فاستدرت ورأيت فراس ورائف وسامر والوليد، كانت دهشتي بعدم انتباهي لوجودهم أكبر من رؤيتهم مجتمعين، أغلقت ندى الباب ودفعتني نحوهم. 

"أخيرًا أتيت! كدتُ أنام يا رجل..". 

قال فراس الذي كان مستلقٍ على عرض الأريكة المنفردة عاقدًا يديه خلف رأسه وقدماه متدليتان من جانبها الآخر، وسامر الذي يكبر الوليد بعام يلعب معه بجهاز ألعاب يملكه الأخير، أما رائف فكان يقلب قنوات التلفاز بضجر، كلما استقر على محطة أمره فراس أن يغيرها حتى رماه بجهاز التحكم بحنق: 

"اختر بنفسك..". 

زعق بذلك وتكتف وجبينه مقطب، فقهقه فراس مستمتعًا بتعكير مزاج أخيه، جاء أمجد من المطبخ تتبعه ندى التي هرعت إليه بعدما أدخلتني، وضعا الأطباق التي كانا يحملانها على الطاولة، نظر أمجد لي وقال بابتسامة: 

أشِقّاءWhere stories live. Discover now