قصة قصيرة "ظِل الخَوف"

7 0 0
                                    

استيقظتُ في الصباح -كالعادة- على صوت العصافير الذي يأتي من النافذة فتحسستُ هاتفي بيدي لأرىٰ كم الساعة، فوجدتها الساعة التاسعة صباحًا، وفوجئت برسالة من صديقتي " نُهى" تقترح عليّ بالذهاب إلىٰ "كافية لاتيه" المطل على النيل، وذلك في الساعة الخامسة مساءً نحن وبعض صديقاتنا كي نشاهد غروب الشمس وهي تتوارىٰ خلف الجبال تاركة وراءها أشعتها البرتقالية، فتحمستُ للأمر كثيرًا وكذلك تحمّس باقي الأصدقاء، فنحن لم نلتقِ منذ فترة ليست بالقليلة ..!

مرت الساعات سَريعًا وكأنها في سباقٍ مع الزمان وها نحن الآن نجتمع أخيرًا في أحضان الغروب ورومانسيته، فكم أشتاق إلى النيل، في جلسة مسائية، هادئة، بعيدة عن الصخب وعن جميع الناس ..
توارت الشمس تمامًا لتظهر أول خيوط الظلام فترىٰ السماء بألوان بنفسجية مختلطة بخيوط برتقالية وأخرىٰ ذهبية وكأنها قوس قُزح .. فشردتُ قليلًا أتأمل في السماء بإعجاب شديد إلىٰ أن قاطعتني صديقتي "نهى" قائلة:
- "عُلا" ما رأيك في أن نلتقط بعض الصور التذكارية لهذا المنظر الجميل إلىٰ جانب بعض صور «السيلفي» ..!
راقت لي الفكرة كثيرًا وقُلتُ لها في دهشة:
- وكإنك تقرئين أفكاري، فهذا حقًا ما كنتُ أفكر فيه!
قمنا من مجلسنا وتركنا أصدقائنا حول المنضدة يتسامرن ويضحكن على بعض النكات التي كانت تطلقها إحداهُن ..
التقطنا صورًا كثيرة لا أعلم كم عددها بالضبط! فهذا ليس بالشيء المهم، المهم هو أننا نعيش تلك اللحظاتُ الجميلة..
وبعد مرور ربع ساعة تقريبًا قررنا العودة إلىٰ صديقاتنا .. فظللتُ أتأمل في النيل كثيرًا ولكني لم أطق الجلوس بعيدة عنه لذلك قررتُ أن أتركهن، وركضتُ نحوه كطفلة صغيرة لا تبالي بمن حولها!
دنوت منه كثيرًا ولم أشعرُ بنفسي إلا وأنا أجلس على ذلك السُلم الحجري أتأمل بمياههِ المظلمة السوداء !
نعم أشعرُ بالخوف منه - ولكن ضوء القمر الذي يُرسل أشعته الفضية لتنعكس بدورها فوق صفحة مياهه الصافيه- تجعلني أشعر ببعض الأمان .
فتأملتُ فيه دون ملل أو كلل، تارة في الأضواء البعيدة المنبعثة من بعض المباني، وتارة في القوارب التي تمر بين الحين والآخر، والمزينة بالأضواء المختلفة منها الأخضر والأزرق والأحمر،
وأثناء تأملي في مياههِ التي ترتطم بالصخور الحجرية أتىٰ الأصدقاء ليشاركوني تلك الجلسة التأملية .. وجلس كلّ منّا في مكانه شاردًا لا يتحدث وكأننا غرباء لا يعرف بعضنا بعضًا ..!
فجلست صديقتي"نهى" بجانبي وتبادلنا أطراف الحديث قليلًا ثم عاد كلّ منّا إلىٰ شروده!
ثم حدث ما قطع عنّي ذلك الشرود عندما رأيتُ شيئًا أخضرًا بالماء ولإننا في المساء حيث كان يغطي الظلام على ذلك المكان، لم أتبين ملامح ذلك الشيء، فتتبعتُ الضوء ببصري لأراه مُعلقًا بخيطٍ رفيع معقودًا بعصا طويلة، يمسكها رجلًا كان جالسًا بمقربةٍ منّا .. لقد كان صيادًا وكانت تلك سنارته ألقاها في الماء، فكم أعجبني تمهله وصبره .. ولم تمر إلا بضع دقائق حتى غمزت السنارة، فرفعها ليلتقط منها "سمكة صغيرة" لتتراقص بدورها في الهواء يمنة ويُسرة في محاولةٍ منها بالإفلات ولكن دون جدوى، ليضعها بعد ذلك بجانب أخواتها في دلوه الصغير .
لم يكن الظلام دامسّا وهذا بسبب الأضواء القريبة المنبعثة من " الكافيه " وعلى الجانب الآخر من النيل كانت تنبعث موسيقى هادئة آتية من أحد القوارب، فأخذ يقترب شيئًا فشيئًا حتىٰ رسىٰ أمام الشاطيء ، فأطفيء صاحبه " الكاسيت " وقد كان شابًا متوسط الطول ذو بشرة سمراء وشعر أجعد وأعين بنية، يرتدي تيشيرتًا رماديًا وبنطال من الجينز؛ فقد كان في عقده الثاني تقريبًا، وظل يصيح بصوت عالٍ قائلاً :
- مَن سيذهب معي في نزهة نيلية لن يندم، وسيقضي وقتًا ممتعًا، وليلة هنية، اقترب يا أفندي واقتربي يا آنستي، هيا تعالَوا إلىٰ " مركب مصيلحي " وظل يردد وينادي ولكن دون جدوىٰ وعندما يَئس من محاولاته العبثية اقترب منّا بخطوات مترددة سائلاً إيانا :
- ما رأيكن آنساتي بأخذ نزهة نيلية بقاربي المتواضع ..؟
استساغت لنا هذه الفكرة كثيرًا، فقلنا له:
- بشرط ألّا يركب فيه أحداً سوانا!
هنا ابتسم " مصيلحي " ابتسامة صفراء مستغلًا الموقف قائلاً :
- في هذه الحالة ستدفعون مالًا إضافيًا لأنه سيكون خاصًا ..
وبدون تفكير وافقنا علىٰ ذلك لأننا كُنّا بحاجة إلىٰ تلك النزهة النيلية .
ولم تمر سِوىٰ بضع دقائق حتى انطلق بنا بعد أن استقرت كل واحدة منّا في مكانها، مبتعدًا عن " الكافيه" وأضوائه، ثم غاص بنا في الظلام، ولم يبقىٰ سوى ضوء " القارب" والضوء المنبعث من القمر إلىٰ جانب بعض الأضوية التي تأتي من بعيد ..!
فكم شعرت بالسعادة وكإنني ذاهبة في مغامرة ما.. كمغامرات الألغاز والقصص البوليسية، خاصةً ألغاز
" المغامرون الخمسة " سِرنا مسافة ليست بالقريبة، وليست بالبعيدة أيضاً لنرىٰ على مقربة "كوبري كورنش النيل" فقام "مصيلحي" بتشغيل الكاسيت لنعيش جوًا جميلًا رومانسيًا في وسط المياه على ضوء القمر وبعض أضواء القارب الخافتة .. انسجمنا جميعًا مع تلك الأجواء فمنهن من قُمنَ بوضع أيديهن في المياه ، ومنهن من وقفن عند مقدمة «القارب» يتحدثن ..
أما أنا فقد كُنت أسجل ڤيديو ليلي باستخدام «فلاش الكاميرا» كان كل شيء يبدو على ما يُرام ويسير بشكل طبيعيّ، إلىٰ أن ابتعدنا تمامًا .. فلم نرىٰ شيئًا البتّة سِوىٰ المياه المظلمة السوداء، فاقتحمت رأسي الأفكار المخيفة التي جعلت نبضات قلبي تزداد شيئًا فشيئًا حتىٰ ظننتُ بأنهم سيسمعونها، فقطع شرودي صوت إحدىٰ صديقاتي التي قالت لي :
- " عُلا " ما بك تجسلين صامتة؟! هَلا شاركتينا بالحديث !
- نعم .. ولكن بأي شيء كنتن تتحدثن ؟!
فقالت "عاليه" مازحة، لا شيء مهم، كُنّا نتحدث فقط عن الأشباح ..!
وأردفت الأخرىٰ قائلة: لابد وأن هناك من يشغلها عنّا، تُرىٰ من هو؟!
ضحك الجميع في سُخرية غير مباليات بالظلام الذي غَط علينا ..!
فنظرت لهم في دماثة دون أن أنبث ببنت شفة غير مبالية بسخريتهن، فقد كان كل ما يهمني هو الخروج من ذلك الظلام والعودة إلىٰ "الكافيه" الذي ابتعدنا عنه كثيرًا، فلم أعد أرىٰ معالم لأي شيء وكأننا في قلب المحيط ..
فجأة رأينا ما جعلنا نصمت جميعًا حيثُ وقع في قلوبنا الخوف والرهبة ..لم يتحدث أحد فالجميع في صمتٍ عارم ..!
تساءلتُ في نفسي، ما هذا الذي أراه؟ وما هذا الشئ الذي مررنا من أمامه للتو ؟!
كان الظلامُ دامسًا فحملقت بشدة حتى اتسعت حدقة عيني إلى آخرها كي أتبين الشيء الذي نمر من أمامه، دق قلبي بشدة، فأنا لا أعلم ما الذي بجانبنا وما تلك الأشياء البيضاء اللون التي أراها وكأنها مُعلقة في الهواء .. هل هي أشباح ..؟ لا لا هذا غير معقول! ولكن لماذا لا تكون كذلك؟ فالمكان الذي نحن فيه بعيدًا عن كل شيء.. بعيدًا عن الفندق والكافيه والكورنيش والكوبري .. بعيدًا عن الأضواء، وبعيدًا عن البشر ..!
فهو كالمكان المهجور - هذا إن لم يكن كذلك حقًا - هكذا صرتُ أحدث نفسي، إلى أن قطع حبل أفكاري صوت إحدىٰ صديقاتي وهي تسأل "مصيلحي" عن الشيء الذي مررنا من أمامه - يبدو أنني لم أكن الوحيدة التي راودتها تلك الأسئلة والأفكار الغريبة- ويبدو أنني أيضًا لم أكن الوحيدة التي شعرت بالخوف..!
فأجاب "مصيلحي" بأنها جزيرة مهجورة لا يأتي إليها أحد، أما عن تلك الأشياء البيضاء التي رأيناها وكأنها مُعلقة في الهواء لم تكن إلا طيور اتخذت بعض أفرع الأشجار الصغيرة المتفرعة مسكنًا لها ..!
هنا ارتاح قلبي، وارتاحت قلوبنا جميعًا - ولكن لم ينتهِ الأمر بعد - فقد أتت تلك الأفكار إلىٰ رأسي لتراودني مرة أخرى .. لأجدني أحدث نفسي في وَجَل قائلة : جزيرة مهجورة ..! نعم هذا ما قاله ..هذا يعنى أنها قد تكون مسكونة بالجن والأشباح خاصةً إذا كان المكان مظلمًا ومهجورًا !
تُرىٰ ماذا إن خرج لنا شبح ليُخيفنا؟ تُرىٰ من أين سيخرج هل من الجزيرة، أم من تحت الماء ؟ وماذا لو انقلب القارب بنا فسقطنا جميعًا في المياه المظلمة وأنا لا أعرف السباحة .. فأنا لا أريد أن أموت غرقًا ..!
فاستدركت الأمر قائلة، ولكن ما هذا الذي أقوله! يبدو أنني بالغتُ كثيرًا في شعوري بالخوف ..كل شيء سيكون على ما يرام .. فقط كل ما عليّ فعله هو أن أهدأ .. نعم هذا ما عليّ فعله .. فأنا لستُ وحدي، بل معي صديقاتي ..
هكذا صِرتُ أُهدئ نفسي وأطمئنها كي أطرد تلك الأفكارُ السيئة من رأسي لأُقلل شعوري بالخوف ..
ولكن ظلّت هذه الأفكارُ تلاحقني، وأنا أُحاولُ إبعادي إياها في محاولات عبثية لم تفلح بشيء ..!

فرأيتُ أخيرًا تلك الأضواء مرة أخرى، منبعثة من «الكافيه» على مسافة بضعة أمتار قليلة وها نحنُ نقترب منها، حتىٰ وصلنا أخيرًا وكأنني عُدتُ إلىٰ الوطن بعد رحلة طويلة وشاقة .. ولكن حدث ما يكن متوقع فقد انقطع التيار الكهربائي فجأة.. وانجرف بنا القارب في اتجاه معاكس.. ولم ندري أين نحن بالضبط..!
وإذ بنا نرى أشباح مصطفة بجانب بعضها البعض، حيث كان يبلغ طولها متران تقريبًا! وإذ بها تقترب وتقترب إلى أن صاروا بالماء، فصار القارب يتراقص من تحتنا وكأنه قطعة خشب بالية، فأُصبنا جميعًا بالهلع والخوف!

مرت الدقائق وكأنها ساعات لا يسمعنا أحد.. فتجمعت الأشباح حولنا وصارت تأخذ رفيقاتي واحدة تلو الأخرى حتى أصبحت وحدي بالقارب، إلى أن جاء ذلك الشبح ونظر لي بعينين حمراويتين.. فأخذ يقترب مني شيئًا فشيئًا.. ثم ضحك ضحكة خبيثة وقال أنتِ لي..!
أغمضتُ عيني مستعدة لتقبل مصيري الذي لا مفر منه.. لأسمع بعدها أصوات ليست غريبة عنّي.. إنها تشبه أصوات صديقاتي..!
لا لا.. لابد أنني أتوهم! هذا غير معقول.. فقد أخذتهم الأشباح أمام عيني..
هكذا صرت أحدث نفسي.. ولكن أخذت أصواتهم تعلو بأذني.. ففتحتُ عيني لأرى أمامي صديقاتي وهم ينظرنَ إلي باستغراب شديد قائلين بصوت واحد:
- هل أنتِ بخير؟
- نعم أنا بخير.. ولكن ماذا حدث؟
فأجابت "نهى" قائلة:
- لقد فقدتِ وعيك فجأة.. وصرتِ تهلوسين بكلمات غريبة! كنتِ تصرخين بصوت عالٍ..وتتفوهين بأشياء غريبة تارة عن الموت وتارة عن الأشباح التي تقترب منّا لتأخذ أرواحنا..!
- هذا يعني بأنه لم يكن هناك أشباح؟!
ضحك "مصيلحي" وقال ساخرًا:
- هناك أشباح بالفعل.. ولكنها بعقلك أنتِ فقط!
نظرت يمينًا ويسارًا لأرى إن كان هناك أشباح فلم أجد شيئًا.. فأردكت أن ذلك إلا وهمًا نسجه عقلي الباطن..

لم تمر سوى بضع دقائق حتى رسىٰ القارب أمام الشاطيء فقام "مصيلحي" بربط الحبل بالمرساة، وعدنا إلىٰ المنضدة التي كُنا نجلس عليها وأخذنا أشياءنا مستعدات للعودة إلىٰ منازلنا ..!
هنا توقفت قليلاً وابتسمت ابتسامة عريضة ساخرة من نفسي، فقد أدركتُ بأنني بالغتُ كثيرًا في شعوري بالخوف، فلم يكن هناك أشباح وإنّما كان ذلك تأثير الأدرينالين الذي سيطر على عقلي، فجعلني أتوهم تلك الأشياء .. إنه فقط ظل الخوف ..!

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Sep 22, 2020 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

ظل الخوفWhere stories live. Discover now