١٣) دمـوعٌ ومطر.

ابدأ من البداية
                                    

لم أستطع البقاء أكثر فانصرفتُ كذلك.
خرجتُ من المدرسة بخطى بطيئة، دسستُ يدي في جيوب بنطالي وسرتُ على مهل..

رغم تأخري عن العمل، ما كنتُ مُباليًا.
رفعتُ رأسي للسماء الملبدة بالغيم ويندى من ثناياها هتان خفيف، أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا يحثني على الإسراع، لكني أبطأت سيري ولم أصل إلى المحل إلا والمياه تقطر من ثيابي.

استقبلتني نظرات رافع المتساءلة:

"وبخني، عاقبني كما تريد ولكن استمع لي أولاً".

قلتُ له بصوتٍ ثقيلٍ متعب فأصغى لي وحكيتُ له الحكايةَ كاملة، منذ رؤيتي لماهر أول مرةٍ وحتى خروجي من المدرسة قبل قليل.

"يا له من أب! أبَعدَ ما فعل لولده وأهانه أمامكم يطلب منه أن يعتذر؟ بعض الآباء لا يستحقون نعمة الإنجاب!".

ضاق صدري حين تذكرتُ كلماته وكلمات ابنه لنا، وصمت أمجد الطويل وكأنه يقر بكل ما قالوه.
تذكرتُ ما قاله لي الظهيرة الفائتة، "أنتَ لا تعرف شيئًا" كم مِن شيءٍ لا أعرفه يا ترى!
قلتُ فجأة:

"وعقوبتي؟ ".

"أيُّ عقوبة! ".

رفعتُ حاجبي باستغراب ففهم وقال بهدوء:

"ما من عقوبة.. ألا ترَ الجو الماطر وثيابك المبللة؟ عد لبيتك وعُد اليومَ عطلة".

امتثلتُ لكلامه دون تردد فقد انتبهتُ لتوي أن أطرافي كانت ترتجف من البرد.

..

غادرتُ المحل وسرتُ على الرصيف عائدًا، تساقطت قطرات المطر ناعمةً، صامتةً، مثل مشهدٍ في فيلمٍ صامت، ودون أن أشعر، انهمرت دموعي، كنتُ شاكرًا لقطرات المطر التي ضللتها، ربما كان ذلك هو الرابط الخفي بيني وبين المطر، ربما كنتُ أكن مودةً خفيةً له لأنه ضلل دموعي مرارًا، ولم يفضح بكائي، عادت بي الذاكرة لحظتها ليوم أمي الأخير، ويوم أخي الأول، كان الجو يومها ماطِرًا أيضًا، وكان جسدي يرتجف بردًا وربما خوفًا من مستقبلٍ مجهول.

فقدت أمي حياتها في سبيل إنجاب حياة، يومها عاهدتُ نفسي على حماية تلك الحياة حديثة الولادة، ربما لكي لا تذهب تضحية أمي هباءً، وربما لأن قلبي مالَ لذلك الصغير.

أحببته حبًا غيرَ مشروط، أحببته لأنه أخي، وقطعتُ عهدًا على نفسي بأنني سأحميه ولن يتعدى عليه أحدٌ إلا على جثتي، لن يتذوق الألم ولا الفقد ولا الوحدة وأنا حي، ولكني فشلت، نقضتُ عهدي، فأوذي مراتٍ عدة، دون أن أحرك ساكنًا، لم أستطع حتى إسكات من تلفظ عليه، كم مرةً أوذي في غيابي وبقي صامتًا، كم مرةً تألم ولم أعلم بألمه! كم عانى من الوحدة! وأنا بعيد عنه! كيف بقيتُ متغافلًا طول هذه السنوات، لم يشكُ إلي في حياته، وكتم في صدره آلامه، لماذا؟ لماذا لم يفصح لي بما يختلج في نفسه، لماذا يبقيني حائرًا على الدوام، اكتفيتُ من هذا الفشل، اكتفيتُ من الوقوف متفرجًا، سأفعل أي شيءٍ كي لا يُهان غدًا.

أشِقّاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن