الفصل الثاني والعشرون

16.5K 304 1
                                    

كانت التحضيرات لعرس رعد على قدمٍ وساق ، بعد سفر هاشم أغلق الموضوع تماماً وكأن أمر سفره قضية محظور الاقتراب منها أو التساؤل عنها ، الإجابة الوحيدة التي نالها كل من استفسر ، كانت أنه اشتاق لزوجته وعاد إليها ، الجدة كانت الوحيدة التي ترمي فيصل بنظرات من نار كلما التقت به ، رغم انها تقدر تماماً أسباب تصرفه بهذه القسوة ، حتى هي لم تستطع ان تتصرف بطريقة مغايرة ، لم تستطع أن تمنع المحظور ، فهي في داخلها كانت تنتظر وقوع ما حدث ، سوزان لن تصمت .. ومع ذلك ما فعلته فاق التوقعات ...
منى أظهرت خيبة أملها بوضوح لسفر هاشم قبل حضوره لعرس رعد ، لكن تبريرات فيص النافذة الصبر ووجه أمها الممتقع أوقفا استفساراتها التي لم تشف أي إجابة لها غليلها .. اشتاق لسوزان ؟؟ هاشم يشتاق لسوزان .. هزلت .. كيف يشتاق لحرباء .. أفعى سامة .. موت زؤام ؟؟ كيف يشتاق للثرى وبين يديه ثرية كـ يارا ؟؟ التفتت حولها وهي تدرك أيضاً اختفاء يارا منذ يومين .. منذ عودتهم من المزرعة لم تسمع عنها شيئاً ولم ترها .. استغربت أكثر هناك أمر ما يحدث .. استيقظت منى من أفكارها على صوت والدتها وهي تقول :
- منى يمّة مع مين بحكي .. وين رحت ؟؟!!
التفتت إليها منى وعلامات الاستفهام تملئ ملامحها وهي تسأل باستغراب شديد :
- يمّة وين يارا .. صرلي فترة مو شايفتها ولا عم بسمع عنها شي ؟؟
اغرورقت عينا والدتها بالدموع ما إن ذكرت اسم يارا ، وأجابت بصوت متقطع من الألم ، بينما تتدحرج إحدى دمعاتها بعنفوان على وجنتها المتجعدة وكأنها تحفر خندقاً جديداً يحكي قصة ألم أخرى في حياة الجدة :
- يا ويل قلبي عليها .. المسكينة بعد كل إلي عملته طلعت هي الغريبة والبرانية !
انقبض قلب منى وهي تشعر بالظلم الشديد ، شعرت أن ما توقعت حدوثه وقع وحدث فعلاً ، لماذا يا هاشم .. سوزان أذاقتك الأمرين جئتني تبكي دماً كطفل سلبت روحه منه .. لأول مرة كنت أراك منهاراً محطماً صورة باهتة لرجل كان يقال عنه جبلاً عتيداً ، حطمتك سوزان و أنا كنت الشاهدة الوحيدة على انهيارك ، لم أسمح لأحد أن يعرف ما عانيت ، ولم أنقل ما رأيته بأم عيني لأحد .. كيف .. كيف تركض وراءها من جديد وتترك درة مكنونة ، بل جوهرة نفيسة تضيع من بين يديك ...
كانت منى منذ عودة يارا و والدتها وهي تراقب التبدل البطيء في مزاج هاشم ، كان يستعيد روحه شيئاً فشيئاً ، يسترجع عنفوانه الرجولي الذي ميزه منذ سنوات مراهقته ، كانت تراه يقف بشموخ وإباء أمام يارا ، تراه رجلاً بكل ما للكلمة من معنى معها وبرفقتها ، حتى أنه استعاد قواه في مواجهة سوزان .. ما زالت كلماته ترن في أذنيها في تلك الليلة المشؤومة ، مازالت كلما تذكرت جلسته وانهياره والطريقة التي كان يتكلم بها وعيناه حمراوان وكأنهما تعتصران الدموع - التي لا يسمح لهما بالتخلص منها – دون جدوى ، كان يجلس على الأريكة في غرفة الضيوف في منزلها ، مرفقيه مرتاحان فوق ركبتيه وأنامله تعتصر شعره وكأنه يمر في حالة جنون يسيطر عليها كان يتكلم بلا توقف وهو يقول ما عرفت فيم بعد أنه لا يذكر أنه قاله ولا يعي فعلياً ما فعله في منزلها :
- أنا مستاهل كل شي صار .. مستاهل انتقام رب العالمين مني ، أنا يا عمتي فرطت فكنز .. بتعرفي شو يعني كنز ؟؟ يعني علم وأخلاق وذكاء وجمال وكمال .. فرطت ببنت أنا إلي بحياتي ما انجذبت لأشي اسمه بنت مو بس انجذبتلها .. لأ صرت زي الأهبل بس بدي أشوفها و أكون معها بكلام واحد .. بنت لما شفت دموعها حسيتهم ..
صمت قليلاً وكأنه يشعر أنه يهذي من مرارة روحه وما يمر به ، رفع وجهه إلى عمته التي هالتها الهالات السوداء المحيطة بعينيه وحبيبات العرق التي تظهر بوضوح على جبينه بينما يتنفس بصعوبة شديدة ، وبياض عينيه يكون مختفياً من شدة احمرارهما ، قال بألم وهو يشد على أسنانه بغيظ :
- أنا عمري ما رضيت حدا يجبرني على شي .. ريتهم تركوني أتصرف لحالي .. إلا بدهم يدحشوها بنص وجهي .. أنا والله يا عمة كنت شايفها وعاجبيتني .. المسألة مسألة وقت بس كانت .. لإني كنت حاسس إني عم بدوب فيها .. بس لما هم فرضوا علي أرتبط فيها حاربتهم وحاربت مشاعري إلي أصلاً كانت مفاجئتني .. أنا يا عمة كرهت الظروف إلي حطونا فيها وخلوني أظهر بدور الرافض وأتصرف بناء عليه ، وحتى يارا كانت بموقف مقرف .. كل هالرفض إلي كنت فيه ولما رحت وشفتها منهارة ...
شد على شفتيه وكأنه يمنع التفاصيل من الخروج خاصة لما رأى عقدة حاجبي عمته التي لم تكن تعرف شيئاً عن ظروف يارا كل ماكانت العائلة تعرفه هو زواج هاشم منها بناء على رغبة والده وجدته ، أكمل بعد لحظات :
- بكل بساطة ما قدرت أقاومها .. ولقيت حالي بقول للمأذون يكتب كتابنا .. هالشي خلاني اتمرد أكثر و أكثر عليها وعلى جدتي وعلى مشاعري .. ورميت حالي بحفرة من نار جهنم وتزوجت سوزان ...
ما إن نطق اسم زوجته حتى تغضنت ملامحه بقرف واشمئزاز ، ليردف بقهر :
- يخرب بيتها كرهتني اشي اسمه نسوان .. فاجرة وتافهة وفاسقة ، وطماعة وأنانية ومادية .. اشي بقرف .. رجعتلي كرهي لكل نسوان الأرض .. ريته القرف إلي يقرفها .. حتى ما كان إلي نفس أحكي معها ولا أوقفها عند حدها ولا أحكيلها اعملي ولا تعملي .. مقرفة مقرفة .. بتعرفي يا عمة شو يعني مقرفة .. يعني بقرف منها بقرف أقرب منها .. بقرف أنام معها .. فاسخة ووقحة اشي بسد النفس ! بحس حالي بواحد من بارات أميركا بس أدخل غرفتي !
حاولت منى أن تسيطر على دهشتها من كلمات هاشم وهي تبذل قصارى جهدها لامتصاص غضبه و ألمه ، لكنها لم تستطع أن تمنع دموعها من التفاعل معه وقلبها يتفطر ألماً على ابن أخيها الأقرب إلى قلوبهم جميعاً ، لأنه رجل عربي أردني أصيل نشمي وشهم .. رجل وكما يقال .. الرجال قليل ُ!
التفتت منى نحو والدتها التي كانت ملامحها تنطق بالأسى وقالت بغيظ :
- ترك يارا و رجع لسوزان ؟؟ لايمتى هالظلم هاد ؟؟ ليش بنت الناس جبناها وبهدلناها إذا بدنا نركض ورى المصاري والمظاهر إلي بلا أخلاق ولا ضمير !
وضعت الجدة إبهامها وشاهدها اليمين على عينيها وهي تجهش ببكاء لم تكد منى تسمع مثله منذ سنوات وسنوات طوال ، جعل قلبها يدوي برعب في صدرها وهي تسمع كلمات والدتها تقول :
- خفي علي يا منى من شان الله .. خلص دبحتيني .. ضميري قتلني قتل على هالبنية إلي أخذناها لحم ورميناها عظم .. بنام وبصحى و أنا بتخيل حالي بحكي معها وبعرف شو أخبارها ، سكرت موبايلها وما حد عارف وين أراضيها .. أنا كنت السبب بكل إلي صار لها .. يا منى أنا غصبت على هاشم يتزوجها ولا هي نص دكاترة أميركا والجامعة تمنوا يخطبوها .. أنا قطعت بنصيبها ورميتها هالرمية ما توقعت هاشم يعاندني .. واليوم ظروفه تعانده ..
التقى حاجبي منى بارتباك وهي تلتقط الكلمة التي كانت تنتظر سماعها بتوق شديد :
- ظروفه السبب بروحته على أميركا !!
مسحت الجدة دموعها بالمناديل وهي تحاول أن تستعيد رباطة جأشها وتقول بصوتها المتحشرج من أثر البكاء :
- يعني إنت بدك تكوني زي باقي الناس وتصدقي إنو اشتاق لعيدان الكبريت !
ابتسمت منى بمرارة وهي تقول بحزن :
- قصدك أنا إلي بعرف ومتأكدة إنو ما اشتقلها ريته البين يطسها طس ما ندرى شو عمل فيها !
أردفت الجدة بحرقة وهي تستعيد دموعها :
- شوفي يا منى والله ما أذكر بحياتي دعيت على حدا .. إلا هالبني آدمة هاي ما بقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل عليها .. شكيتها لواحد أحد .. شكيتها لواحد أحد .. ربي ينتقملي منها ويريح هاشم من كيدها ومكرها ...
تغضنت ملامحها واختفى صوتها بكلماتها الأخيرة وهي تذرف دموعها في نوبة صامتة من البكاء .. اغرورقت عيني منى وهي تتأمل انهيار والدتها .. فعلاً تبدو خائرة القوى وقد غادرتها روحها القتالية .. عادت كما كانت قبل ثلاثة سنوات مضت أو ربما أكثر .. عادت كما كانت قبل أن تدخل يارا حياتها ..
قاطع نوبتهما البكائية دخول سارة ، التي كانت تبدو مجرد بقايا لسارة التي عرفها الجميع ، تلك الفتاة البريئة التي تتصرف بما لا يناسب سنها ، صغيرة وخالية البال ولا تلقي اهتماماً لشيء في العالم ، رغم حساسيتها المفرطة التي كانت تخفيها بلا مبالاتها .. سارة اليوم امرأة حزينة دخلت العالم الحقيقي من أوسع أبوابه ، وخبرت بشاعته بأسوأ الظروف ، وتعلمت الدرس بأغلى الأثمان .
تأملتها منى وهي تدخل الغرفة بلا أي تعبير على وجهها المنتفخ ، ما الذي يجري لابني أخيها ، وكأن صاعقة ضربت كل منهما ، جلست على الأريكة وهي تلقي التحية على عمتها ، لتقول لجدتها :
- يارا موبايلها مغلق ، ماخدة إجازة من المستشفى .. بس بالجامعة مو عارفة شو عم بتسوي ، لإنو هاد الأسبوع امتحانات النهائية . يمكن تسلم علاماتها وتبطل تداوم ..
التفتت الجدة نحو سارة وهي تشعر بالألم لأن يارا لم تفكر بالسؤال ، لم تكن تلومها أبداً وإنما تشتاق لها ولدفئها الفطري الذي يغمر كل من تعاملت معه .. سألتها بيأس :
- يعني بطل حدا عارف يوصلها ؟؟ لو هاشم هون كان جابها من تحت طقاطيق الأرض .. وإنتوا كل واحد فيكم بتحججلي بحجة !
وقفت سارة بغيظ وقالت :
- لو هاشم هون ؟؟؟ ليش مين إلي دمرها للبنت وخلاها تروح تدفن حالها بالحياة ؟؟؟ مين إلي طفشها وأهملها وتركها وخلاها تختفي من أدامنا كلنا .. مش حبيبك هاشم إلي دحشتيها دحش بحياته ولا كأنها إلها كرامة ؟؟!! بس نفسي أفهم شغلة لما هم مو أد الالتزام والمسؤولية بتزوجوا ليش ؟؟ آه ؟؟ ليش بتزوجوا ولا بس تخصص تعذيب ولئامة وتفشش ؟؟!!
تأملها زوجان من العيون وهي تنهار بالبكاء بعد كلماتها وتغطي وجهها براحتي يديها وتهرول خارجة من الغرفة بطريقة أثارت عجب المرأتين ، نظرت منى نحو والدتها وسألتها بألم :
- يمّة شو مالهم ولاد فيصل .. كل واحد فيهم مصيبته أكبر من التانية !
صمتت الجدة للحظات ، وقالت بألم والحزن يقطر من كل كلمة تلفظتها :
- ليش شو البيت إلي تربوا فيه ولاد فيصل ؟؟ شو تعلموا من قسوة وعملية فيصل ، وبرود ولا مبالاة نسرين ؟؟ ترى لا يغرك فيصل إلي شايفتيه هلأ .. ولا تغرك نسرين إلي صحصحت على كبر .. هدول التنين ما قصروا ببعض .. والبداية كانت من عند فيصل إلي كان يحسس نسرين بصغرها وعدم خبرتها وفهمها للحياة .. واستمر التحدي بينهم و راحوا هاشم وسارة بالنص .. هاشم رجال وعرف يتجاوز هالألم .. بس تعقد من الزواج واعتبره شر لابد منه .. أما سارة يا ويلي عليها .. بقيت محافظة على طفولتها خوف إنها تكبر وتصير عايشة متل أمها و أبوها .. بس الحياة ما بترحم حدا يمّة .. كله بده يكبر .. وكله بده يحمل مسؤولية .. ما حدا ببقى صغير .. وما حدا ببقى على حاله .. قال ما بدوم على ما هو .. إلا هو .. سبحانه الواحد الأحد .
شعرت منى باليأس من كلمات والدتها .. يا الله لم تتوقع أن تشعر بكل هذا الغم ولم يبق على زواج رعد سوى أربعة أيام .. فمنذ عودتهم القسرية من المزرعة صباح الجمعة ، مر يومان واليوم الاثنين ، والبحث ما يزال مستمراً عن أسباب النكبة التي أصابت عائلة فيصل .. فيصل الوحيد الذي يرفض الاعتراف بوجود مصيبة وكأنه يعرف أن الأمر يحتاج الوقت كي تندمل جروح الجميع ..



سلسلة النشامى /الجزء الأول /  جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة /معدلة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن