٢) الليلــةُ الماطِـرة.

Comincia dall'inizio
                                    

"كلا، لا نستطيع قبولها".

قال الولد الأكبر بصرامة تذكرني بأحدهم عندما كان في سنه.

"ولكنها ليست لك".

قلتُ وأنا أمد الكيس إلى أخيه:
"علمتنا أمي أن لا نقبل شيئاً من الغرباء، لذا اِبتعد عنا الآن".

مد الصغير كلتا يديه وانتزع الكيس مني وضمه بقوة إلى صدره.

فاستشاط شقيقه غضباً وحاول بيدٍ أن ينتزع الكيس منه وكانت الأخرى ممسكة بالمظلة، فأفلتها وحاول انتزاع الكيس بكلتا يديه، فتمزق الكيس وتناثرت الحلوى على الأرض فتبللت بمياه المطر، وزادها بللاً دموع الفتى الذي انحنى يُلملمها.

وأنا أتأمل المشهد.. مدهوشا...

انحنى الولد الأكبر على شقيقه وجره من يده وأجبره على السير خلفه فداسا بقصد أو من دون قصد على الحلوى، وكان الصغير يمد يده الحرة إلى قطع الحلوى والدموع تسيل من عينيه وهو يشهق في البكاء.

نسيا حتى أخذ مظلتهما.

حسِبتُني أكون البطل المنقذ، ولكن هذا الصبي غلبني.
يذكرني بذلك الطفل، الذي ما عاد يشبهني.
تأملتهما يذهبان، ومظلتهما أمامي تحتضر، وقد غرق جوفها بمياه المطر.

يرافقني البؤس دومًا في الليالي الماطرة، كتلك الليلة التي ماتت فيها أمي، وليلة أخرى عندما تخلت عنا تلك العجوز وزوجها، فهما لا يستطيعان تحمل الأطفال وهما في ذلك السن. فيا لها من ذريعة.

عندما كان أخي في مهده، طلبوا مني أن أطلق عليه اسمًا، بصفتي آخر من تبقى من عائلته، كنتُ طفلاً، وأول ماخطر ببالي كان اسم بطل قصة مصورة كانت أمي تحكيها لي، كان اسمه أمجد.

فأصبح اسم اخي أمجد، ولم أدرك إلى أي مدى سيرتبط هذا الإسم بمصيره.

لم يكن بطل القصة سعيدًا كأي بطل من أبطال قصص الأطفال، أولئك الذين لايعرفون التعاسة أبدًا، إلا أن أمجد كان تعيسًا، ليس لشيء، إنما كان يخال نفسه منبوذًا ووحيدًا، على الدوام.

لم أعرف لمَ كانت والدتي تحكي لي تلك القصة..

بلغ أخي عامه الأول و خطى خطواته الأولى،
و لكم كنتُ سعيدًا و أنا أراه يسير على قدميه و يباعد بين يديه كي يتزن، وكنتُ أهب لنجدته عندما يترنح ويوشك على الوقوع.

مكثنا عامين في منزل العجوزين، بهاء وزوجته أروى عمة والدتي.

قررا فجأة أنهما لم يعودا قادرين على تربية الأطفال، فنُقلنا على إثر هذا القرار إلى ملجأ في الضاحية.
كنتُ حينها في السابعة من عمري.

وقد بلغ أمجد عامه الثاني، كان شديد التعلق بي، فأبى وبكى عندما نقلوه إلى غرفة أخرى بعيدًا عني، كانوا يضعون فيها الأطفال من عامهم الثاني وحتى الخامس.

بعد أسبوع من مكوثنا في ذلك المبنى المتهالك، أُجبر المسؤولون على نقل أمجد إلى غرفتي، فقد أحدث ضجيجًا وجلبةً مذ نقلوه إلى تلك الغرفة، ولكم كان سعيدًا حينما أدخلوه إلي، عانقني بحرارة وطبع قبلة مليئة باللعاب على وجنتي، وامتلأت تلك الحجرة القاتمة بصوت ضحكاته الجميلة.

انتشلني من بحر الذكريات هدوء مفاجئ، فقد توقف المطر وتباعدت الغيوم، ولا زلت أنا أقف في مكاني، أمام المظلة المشرعة، أمسكتها وأغلقتها وتولد في داخلي حدس بأنني سأقابل ذلك الصبي مرة أخرى، عندها سأعيد إليه مظلته.

عدتُ إلى بيتي مثقلاً بأفكار ما انفكت تلاحقني، خلعتُ معطفي وألقيته بإهمال على الشماعة، دخلت إلى غرفتي وخلعت سترتي ووضعتها على ظهر كرسي المكتب كيفما اتفق، جلستُ على الكرسي أصارع رغبة قوية تتملكني، لم أستطع كبحها فاستخرجت الرسالة من جيب السترة، ولحسن الحظ فهي لم تبتل، تأملتُها لبرهة قبل أن أفتحها وألقي نظرة سريعة على ماكُتِب فيها.

أغلقتها بسرعة قبل أن أكمل القراءة، لا أستطيع إحتمال ذلك، كنت في حالة سيئة آنذاك، فمنذ زمن لم تجتحني الذكرى كهذا الاجتياح، متى سأتخلص من ظلمة الماضي، فركت صدغي في محاولة يائسة للسيطرة على تفكيري، ولكن لا فائدة.

سأخلد إلى النوم إذًا.

تقلبت في فراشي وبعد عناء استطعتُ الخلود إلى النوم.

أيقظني صوت منبه الخامسة.
فقمتُ بتثاقل وأعددتُ كوب قهوة على مضض، وذكريات الليل تصر على محاصرتي وتكبيلي.
جلستُ في غرفة المعيشة، أمام التلفاز المُطفأ، وكوب قهوتي البارد، وأنا أحدق في انعكاسي على شاشة التلفاز السوداء.

لم أرَ مروان ذا السابعة و العشرين عام، رأيت طفلاً لم يتجاوز العاشرة، في عينيه الداكنتين إصرارًا عميقًا، أن ما يريده سيحصل، أن الدنيا لن تقف أبدًا في وجهه، أنه سيُحسن الاعتناء بأخيه، ولن يتركه وحيدًا أبدًا، إذ ليس له من أحدٍ سِواه.

..
نهاية الفصل 💓.
سأسعد بقراءة آراءكم وانطباعاتكم..
دمتُم بود.

أشِقّاءDove le storie prendono vita. Scoprilo ora