يوميات ساحر الحب

354 35 443
                                    

ساحر القلوب
عن نبيل لم تره عيني
    يحكي عن عابث متنقل بين قرية ومدينة، وعلى لسان الأسطورة يقال إنّ له قوة عظيمة، لكن لم يكن بالشخص السيء أو يضمر شرورا، بل كان ساحرا يلطف القلوب ويلين الأفئدة والصدور.
    مع كلّ إشراقة يوم يمرّ على أزقة هذه المدينة الصغيرة، تاركا انطباع الأمل في قلوب ساكنيها. لم يكن شخصا عاديا بل كان أكثر الأشخاص حضورا، بسمته كأشعة الشمس تشارك دفئها الفؤاد.
    تحية هنا وأخرى هناك، ليقف أمام ذاك المتجر الصغير المفعم بنبض الزهور، استقبلته البائعة ببسمة أم حانية على ابنها: مرحبا رايان هذه باقتك المعتادة.
ليقطع كلامها بصوته الساحر وحروفه التي تذيب قلب كل أنثى: أعجز أن ألقي تحيتي على أينع زهرة. كيف سأقوم بذلك وأنت تتربعين على عرش الربيع؟
حطم قلاعها ليرقص نصرا على أوتار عواطفها.
    أخذ من البائعة باقته بعدما أن ختم مفعول سحره ببسمة جعلتها أسيرة. توجه إلى المكتبة حيث يعمل فيها مسؤولا ولم يكن هذا منذ مدة طويلة، وما جعله يختار هذه الوظيفة إلا لسبب مجهول.
    عدّل بذلته المخملية متربصا بعينيه الذهبية المخمورة بالمكتبة العتيقة، أخذ نفسا عميقا معانقا عطر أزهاره الفواحة: ما بها تأخرت اليوم يا ترى؟
ليفاجئه رن جرس الباب، وما كان الداخل إلّا تلك الفتاة الكئيبة. ما كاد أن ينبس بحرف حتى أوقفته دفاعا: لا داعي لكلماتك المعسولة فأين يوجد العسل هناك النحل.
هبّ ليصوغ كلاما لربما تصغي العبوس: ما بك تنفرين مني لست بسيء الهندام وقبيح المظهر.
لتردّ عليه بذكاء أسكته للحظة: ليست الملابس من تصنع الرجال.
أجاب بدهشة يشوبها إصرار: كيف لفتاة داهية مثلك أن تعيش شعور الخذلان.
بدون تقاعس أسكت رايان قولها: هذا ليس من شأنك. والحري بك أن تهتم بنفسك، فأنت من يعيش الفراغ، في حين أنّك تحشر أنفك في شؤون الناس.
آثار كلامها جنون ساحرنا الوسيم، فكيف لفتاة محبطة أن تعلم درسا لمن عاش قرون، لمن له خبرة عصور.
    فاض الكأس ولم يبقَ له إلّا أن يقتحم قلبها الجلمود، فإما أن يينع حبا، وإلا لن يكون لساحر مثله وجود.
    تقدم بخطوات رزينة تشارك الأثير أمواجا من غبار سحري، انحنى للقابعة بجوار نافذة عملاقة حيث تخلّلها ضوء المساء الممتزج بلون الزجاج وكلّ تركيزها على ورق الكتاب، رفع رأسها بسبابته، فالتقت عيناها بمقلتيه لتطلق سحرها الأخّاذ: يا فاتنة العينين، اخضعي لسحر كلماتي، حتى في أرض جافة بجوفها حياة، فكيف لك أن تغلق أبواب العشق والهيام؟ سيفتح ذاك القصر المهجور وسترقص فراشات الحب أنغام الحبور، وأن استعصى الأمر على تعويذتي فسأستخدم السحر المحظور حتى وإن أخضعتك لي فبعدها لن أعود أنا، ولن أتذكر من أكون، ستختم التعويذة وليكن ما يكون.
لامست شفاهه جبينها ليدشن تعويذته عليها.
    أفاقت الفتاة وكأنّها كانت في صدمة، تراجعت بنفور لتسمع اسمها: إيفي أنت هنا؟!
    تردّد صوت إحداهن في الأرجاء، لامت إيفي نفسها، وعيونها تتفادى الاحتكاك بمقلتيه: ابتعد عني واتركني بسلام.
    غادرت إيفي وفي عقلها ألف سؤال لما هي في هذا الهيجان. أما هو فقد ارتسمت على شفتيه بسمة انتصار، فمفعول تعويذته فعّال.
    مرت الأيام كالسراب، وبعدها عن المكتبة يزداد، تتفادى وجوده، تتفادى اسمه، وتتفادى خياله، حتى في الأحلام. لكن أصبح الأمر محال، دخلت كملكة لعرشها ليشعر بها رايان: أهلا بالجميلة في قصرها.
نظرت إليه بأعين متقدة: أصبح الأمر لا يطاق. ماذا فعلت بي؟ اسمعني الآن.
رد بنوع من الاستهتار: إنّه سحري يا رشيقة القوام.
ثار ثائرها وهبّت عليه بالكلام: أنا لا أؤمن بهذه الترهات، وذقت منها ما يكفي من الآهات وما الحب إلا حروف يملؤها الفجوات، من هنا نفاق بأحلى الكلام ومن هنا كخذلان.
    كلام كثير يخرج من فاهها لكنّ هو من تصب وراء مكتبه حيران: فكّت تعويذتي هذا مستحيل. فأنا ساحر عظيم من أذاب قلوب النساء، وليّن صدور الرجال، كيف تم ذلك وبمجرد كلمات أنا الذي ختمت قلبها بقبلة مني قبلة الهيام، إذن سينتقل سحري لمستوى محظور، وثمنه أن أنسى من أكون. ضاع في متاهات أفكاره، لكن أفاقته من شروده بصوتها الناعم، ليلاحظ بذلك تفاصيلها وثورانها الجميل: منذ متى لم ألاحظ أعين التوباز الغارقة ببريق الدموع، ورقة شفتيها تماثل بتلات الزهور، لم لا تهدأ للحظة فخصلاتها تحاكي موجات أثير من نور. وكل هذه التفاصيل الناعمة، أنا كنت عنها أعمى، فهل كنت جاهلا أو مجنون. دقت طبول قصر ساحرنا، لتعلن أنّه أسير تفاصيل جميلته، مفتون تعيس هو بحبها أو محظوظ.
    غادرت إيفي، وكيان ساحرنا يطالب بقلبه المسروق. يهذي بها ينادي باسمها، يطالب بحضورها. أيام وأيام مرة وهو مصاب بهذيان، ولقد لعن نفسه على اللحظة التي أطلق فيها لسحره العنان. أين هو ساحرنا العظيم، فقد أغرم بسيدة الحسن والجمال. ما لم يعرفه عاشقنا المريض كان في الأسطورة مخفيا في سطور، أنّ سحره سيدوم في عينيها، وينقش في قلبها، ويرسم في صدرها ولن يزول، فهي أيضا في عشقه تغرق وتغوص. نسي كلماته، خارت قواه، فقد أصبح وأمسى لا يعرف من يكون؛ لأنه بروحها مسكون. انحصر سحره على فاتنة العيون، تراه فارسا مقداما ورجلا شهما مغوارا.
    زادت الأيام ألم البعد والفراق، وبين هذا الشرخ عششت عصافير الهيام. حسم أمره سيد الرجال، وقرر على أمر لن يرجع منه محال، اقتحمت خلوته وهامت في روحه، إذن لابد أن تكون له لا مجال. وهنا كان للأقدار كلام، ولجت إلى المكتبة وهو أدرك طيفها من أميال.
ابتسمت لكن في حروفها مهرجان. مدت يدها وقدمت له الكتاب وما كاد أن يمسكه، حتى بدأت مخيلتها برسمه في أدق الحركات، وما كان لها إلا أن تمدحه في الفؤاد، ليغويها بصوته ذو البحة الرجولية في لحظات: هل لك أن تنظر في عيني للحظات؟ فقلبي فيك تاه هل فقط تأملت في خيرا، فأنا لن أكون لك مجرد متاع، فشخصي مريض فيك وأنت الدواء.
    رفع وجهها فهام فيها للحظات، وهي رأته فارس الأحلام، فأجابت بفتور:  لطالما ظننت هذا الشعور مجرد خيالات في سطور. لكن أعرف أنّه لن يطول، فأبتاه خاننا وهذا أسوء شعور، لذا لن أصدق كلمات تبني لأحبتي قبورا.
    استمع لها في شجون، ليدرك بذلك سرّ هذا البهوت. رفع يديه الرقيقة وحوط بها وجهها اللطيف، ليمسح قطرات لجين انسابت من مقلتيها بحنين: ما بك أخبريني لما تبكين. هذا العالم ليس ملجأ للمساكين، وفي كل زاوية هناك شخص لعين، لذا نواحك لن يفيد. أنت قوية وبطيبتك، لذا ثقي بي، فأنا لست بمن يضمر خبثا، فؤادي أنا الساحر العظيم دقّ لك لا لغيرك. لا ترتابي يا من كانت لي نعيما، فأنت بلسم روحي ونغمات عصافير. سأسكنك في قرة عيني وبين نجمات الأثير، فأنت القمر فيهن ولا يشابهك مثيل. لك مني حياتي، كياني، روحي وكل ما تدق به أنفاسي، فقد توجت كملكة بتاج العنفوان، فأنت نبضي الأسمى وآخر شهقاتي.
    انحنى بنبل ليلثم بشفتيه ظهر كفها النضير. لتزدان فتاته عفة وتتفتح كغصن نظير، فلاح من حولها سحره المثير، لتدشن لحظتهما كلوحة فنان خرجت من بوابة الأساطير.
     مرّ زمن ولم يكن بطويل، لنسمع بقصة غلام يشفي الصدور من سقمها ويزين رفوفها بسمة وحبورا. فبالطبع لم يكن بشخص عادي؛ لأنه سليل ذلك الساحر العظيم. وكان للأقدار كلمة الحسم، لتبدأ بذلك قصة ساحر القلوب الصغير، فمن يدري لربما هو بينكم يلعب بأوتار عواطف البهجة والسرور .

♠ساحر القلوب♠Unde poveștirile trăiesc. Descoperă acum