بين الحياة والموت

28.9K 733 17
                                    


الفصل الثامن والعشرون

بين الحياة والموت

لم تفتح نانسي عينيها حتى تأكدت من خروج لبنة ولمياء كل إلى مدرستها أو معهدها .. انتظرت حتى أصبحت وحيدة في الغرفة ثم فتحت عينيها وانقلبت على ظهرها .. تحدق في السقف بجمود .. وهي تشعر بالخواء داخلها .. وكانها قد فقدت القدرة على الشعور بأي إحساس .. لم يأت محمود .. وهذا يعني انه بكل بساطة لم يعد يريدها .. وهي كالحمقاء انتظرته طوال الليل وقد نسيت كل ما فعله بها .. أين قوتها .. أين كرامتها ؟ لقد سمعت من قبل عن تأثير هرمونات الحمل على المرأة ولكنها لم تعرف بانها تسبب لها داء الحماقة والوهم
اختفت الأصوات خارج الغرفة فعرفت بان البيت قد خلا الآن إلا من السيدة رجاء .. فنهضت وهي تفكر بأنها يجب أن تتخذ قرارا حاسما حول حياتها المستقبلية .. لا يمكن أن تبقى عبئا على ماهر وعائلته لفترة طويلة مهما رحبوا بها وأحسوا بالمسؤولية اتجاهها
خرجت إلى المطبخ لتجد السيدة رجاء تبدأ بتنظيف المائدة من بقايا إفطار الاولاد .. وعندما راتها تهللت أساريرها وهي تقول :- صباح الخير يا عزيزتي .. أرجو أن تكوني قد نمت جيدا
ابتسمت نانسي مؤكدة على هذه الحقيقة التي تعرف كلتاهما زيفها .. فنانسي لم تخطئ قراءة الشفقة المرتسمة على وجه المرأة المسنة .. لابد أن لمياء ولبنة قد أخبرتاها بأن نانسي قد قضت الليل كله ساهرة في انتظار زوج لم يعد يريدها
عندما رأتها السيدة رجاء تشمر عن ساعديها بهدف تنظيف الأطباق .. أسرعت تمنعها قائلة :- لقد كان الطبيب واضحا .. يجب أن تتجنبي أي جهد قد يتسبب بأذية الطفل
قالت نانسي باحتجاج :- لم أعد أطيق الجلوس بلا عمل أكثر .. أشعر بأنني عالة وعديمة الفائدة .. لن أستطيع البقاء في بيت لا أشعر بأنني عضو فعال بين أفراده .. أرجوك يا خالتي .. أنا أعرض تنظيف الأطباق ليس أكثر
نظرت إليها السيدة رجاء بتردد قبل أن تقول :- حسنا .. لا بأس.. سأسمح لك بغسل الأطباق إن تناولت فطورا كاملا
أشرق وجه نانسي وهي تجلس أمام المائدة وتبدأ بالأكل مع أم ماهر التي شاركتها الطعام وهي تسامرها في محاولة مها لشغل عقلها عن التفكير بمحمود
سمعتا فجأة جرس الباب .. يسبق صليل مفاتيح ماهر الذي اعتاد أن ينبه الموجودين لوصوله قبل الدخول احتراما لخصوصية نانسي
تبادلت نانسي نظرات القلق مع السيدة رجاء .. فلم تمر ساعة على خروج ماهر إلى الجامعة .. نظرت الاثنتان إليه عندما أطل عبر باب المطبخ شاحب الوجه زائغ النظرات .. فوقفتا مذعورتين .. وامه تقول بقلق :- ما الأمر يا ماهر ؟ ما الذي اعادك بهذه السرعة ؟
نظر إلى نانسي الشاحبة .. التي عرفت مسبقا ما سيقوله ماهر .. قال بهدوء :- نانسي .. يجب ان تأتي معي حالا
سألته بتوتر :- إلى أين ؟
:- إلى الدكتور محمود
أسرعت أمه تقول بحدة :- هل جننت يا ماهر ؟ كيف تفكر بأخذها إليه وهو لم يتعب نفسه بالحضور أمس بينما انتظرته المسكينة طوال الليل
بالكاد سمعتها نانسي وهي تحس بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان عندما قال ماهر :- الدكتور محمود لم يحضر مساء الأمس لأنه لم يستطع الحضور .. لقد تعرض لحادث أثناء خروجه من مبنى الشركة .. وهو في المستشفى الآن .. بين الحياة والموت .. مجهول المصير
نظر إلى عيني نانسي التين تحجرت فيهما الدموع قائلا :- أعرف بأنك غاضبة منه يا نانسي .. ولكنه بحاجة إليك في هذه اللحظات .. لن تسامحي نفسك إن أصابه مكروه وانت بعيدة عنه
لن تعرف نانسي كيف بدلت ملابسها وخرجت برفقة ماهر شبه واعية لحديثه إليها في السيارة .. وشرحه لها ما حدث بالضبط .. بدلا من الذهاب إلى الجامعة .. اتجه ماهر إلى شركة محمود بنية لقاءه ومواجهته كي يعرف سبب تخلفه عن الحضور مخالفا كل تحذيرات نانسي .. ليجد المكان في فوضى عارمة .. والكل هناك يتحدث عن حادث إطلاق النار الذي تعرض له محمود فور تجاوزه بوابة الشركة .. لقد توقفت سيارة زرقاء لا لوحة لها وأطلق سائقها رصاصتين نحو محمود أصابتاه على الفور وأسقطتاه على الأرض مضرجا بدمائه قبل ان تبتعد هاربة .. لا احد يعرف شيئا عن حالته بعد نقله إلى المستشفى حيث أجريت له عمليات جراحية عدة استغرقت الليل بطوله .. وماهر لم ينتظر ليعرف ..بل أسرع عائدا ليخبر نانسي وجها لوجه ويأخذها إلى هناك لتكون إلى جواره
نظر إلى نانسي بطرف عينه قائلا :- هل سمعت ما قلته يا نانسي ؟ سيارة زرقاء بلا لوحة أرقام حاولت قتل الدكتور محمود .. هل يبدو لك هذا المشهد مألوفا ؟
كانت نانسي ترتجف وهي تفرك يديها باضطراب .. وعقلها يدور ويدور حول فكرة واحدة لا غير .. محمود يموت .. لقد كانت حياته على المحك طوال الليل بينما كانت هي تلومه على التأخر دون ان تعرف ما اصابه .. محمود يموت الآن وسيتركها وحدها .. سوف تخسره غلى الأبد .. لم يكن عقلها قادرا على التفكير بما يقوله ماهر .. كل ما كان يهمها هو أن تصل إلى هناك .. ان تكون معه في حالته الصعبة .. أن تقف إلى جانبه وتمسك يده مطالبة إياه بألا يموت .. لا يمكن ان يموت حارما ابنهما القادم من أبيه .. لن يجرؤ على هذا
ارتجف فمها واحترقت عيناها بالدموع الحبيسة .. ولكنها لم تسمح لها بالفرار .. لقد تذكرت فجأة الساعات التي قضتها امام غرفة العمليات في انتظار خبر عن والدتها .. هاهي تحس بانها معرضة للتيتم من جديد .. ستفقد الآن زوجها وحبيبها وعائلتها الوحيدة .. لا .. إن كان هناك من لحظة تتطلب منها التسلح بالقوة فإنها هذه .. لن تنفع محمود باستسلامها للبكاء والانهيار .. فهو يحتاج إليها قوية .. وصامدة .. كي تحثه على الكفاح لأجل الحياة .. وصلا إلى المستشفى أخيرا .. سارت نانسي خلف ماهر الذي تكفل هو بالسؤال عن محمود .. فعرف بانه قد خرج من غرفة العمليات قبل ساعات قليلة .. وأنه الآن في غرفة العناية الفائقة .. دون ان يعرف مصيره بعد
أمام جناح العناية الفائقة .. كان هناك جمع من الناس المنتظرة .. كان العم طلال هناك ممتقع الوجه .. واجم الملامح .. والسيدة منار تبكي بمرارة وهي تدعو لمحمود بالشفاء .. ريم كانت منطوية في الزاوية وقد بدت شاحبة بوجهها الخالي من الزينة .. وعينيها القلقتين .. بينما كان فراس يجوب الممر بلا هوادة منتظرا أي أخبار من الطبيب .. بالإضافة إلى بضعة موظفين من الشركة رافقوا سيارة الإسعاف إلى المستشفى
نظر الجميع إلى نانسي فور وصولها برفقة ماهر .. فاختفى الحزن من وجه ريم .. وتوحشت ملامحها وهي تقول بغضب :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ لا أحد على الإطلاق يرحب بك هنا
استعادت نانسي صلابتها على الفور وهي تقول بحزم :- أنا هنا لأكون مع زوجي يا ريم .. ولا أحد يستطيع منعي من هذا
قالت ريم بكراهية :- لقد تركته ورحلت بنفسك .. لم تعد لديك عليه حقوق .. بل وتأتين برفقة صاحبك غير عابئة بكلام الناس .. أهو من تركت محمود لأجله ؟
ارتفعت يد نانسي على الفور لتصفع ريم بقوة جعلت تلك تصرخ مذعورة فهبت أمها تصيح غاضبة :- أيتها الحقيرة
أسرع السيد طلال يبعد زوجته وابنته زاجرا بخفوت .. بينما قال فراس بنية التهدئة :- الوقت غير مناسب للشجار .. ما يهمنا جميعا هو مصير محمود
سألته بلهفة وهي تتشبث بذراعه :- كيف هو الآن ؟ أرجوك يا فراس ... أخبرني
قال متوترا :- الطبيب يقول بأن العملية قد تمت بخير .. لقد أخرجت الرصاصات بنجاح .. فقد اخترقا إحداهما كتفه على بعد سنتيمترات من قلبه لحسن الحظ .. والاخرى للأسف اخترقت رئته اليمنى .. لقد تم نقله منذ ساعة تقريبا إلى غرفة العناية الفائقة ولا يسمحون لأي أحد بزيارته
نظر حوله بتوتر قائلا بصوت منخفض :- لقد وصلت الشرطة قبل قليل .. وطرحت الأسئلة على الجميع .. من المتوقع أن يستجوبك أحدهم لاحقا .. لا أصدق بان أحدا قد يفكر بإيذاء محمود
ارتجفت نانسي وهي تفكر لأول مرة بهذه الحقيقة .. أحدهم حاول أذية محمود .. لماذا ؟ لماذا قد يرغب أي أحد بقتل محمود ؟
نظرت حولها إلى عائلته التي لفها القلق و التوتر .. إلى موظفيه اللذين ظهر عليهم الحزن العميق .. وتذكرت محمود .. الرجل القوي الصارم .. لماذا قد يرغب أي أحد بقتله ؟
خرج الطبيب فجأة .. فأحاط به الجميع لسماعه وهو يقول بارتياح :- لقد صحا أخيرا .. مؤشراته الحيوية ممتازة .. إنه ضعيف الآن فحسب .. ويحتاج إلى أكبر قدر من الراحة والعناية
أسرعت السيدة منار تقول بلهفة :- هل نستطيع رؤيته ؟
ظهر التردد على الطبيب وهو يقول :- أنا آسف .. لا يسمح إلا لشخص واحد برؤيته .. شخص يكون الأقرب إليه من عائلته .. ويكون بعيدا عن الشبهات أيضا .. إنها تعليمات الشرطة حتى يتم القبض على الفاعل
أسرع ناهر يتدخل بقوله :- السيدة نانسي زوجته أيها الطبيب .. كما انها تملك دليلا قاطعا على وجودها في مكان آخر وقت وقوع الحادث
اتجهت الأعين نحو نانسي بينما قال العم بامتعاض :- أنا عمه .. وبمثابة والده .. انا من رباه وأنا الأحق برؤيته
قالت ريم بحقد :- كما انها قد تركته طالبة الطلاق .. فعليا هي لم تعد زوجته
نقل الطبيب نظره بين العائلة المتحفزة .. والفتاة الشاحبة التي بدت على حافة الانهيار .. فاتخذ قراره على الفور :- السيدة زوجته على أي حال .. وهي الأقرب إليه في غياب والديه
كادت نانسي تعانق ا لطبيب امتنانا لرده .. إلا أنها في الوقت ذاته كانت ترتجف اضرابا لرؤية محمود الوشيكة .. ارتدت الملابس المعقمة .. وسارت خلف الممرضة إلى حيث يرقد محمود .. حبست أنفاسها وهي تنظر إلى الجسد الممدد أمامها
كان وجهه الذي اختفى نصفه تحت قناع الأكسجين .. شاحبا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه المغمضتين .. بدا كظهره مؤلما بالأسلاك التي وصلت جسده بالأجهزة المتطورة .. وبالضمادات المحيطة بصدره .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه .. وتجلس إلى جواره .. لكم يبدو بعيدا في هذه اللحظة عن الرجل الذي عرفته خلال الأشهر الماضية .. مدت يدها نحو يده الملقاة إلى جانبه .. وأمسكت بأصابعه الباردة .. وهي تهمس :- ستكون بخير .. يجب أن تكون بخير
أغمضت عينيها .. وسمحت للدموع الغزيرة بالتدفق من بين أجفانها .. وهي تدعو الله في قلبها أن يشفي لها محمود .. حتى لو انه لم يكن لها في النهاية .. المهم ان يكون سعيدا حتى لو كان برفقة امرأة اخرى
لأول مرة تدرك نانسي ماهية الحب الحقيقي .. الحب الحقيقي هو أن تترك الشخص الذي تحبه يعيش سعيدا .. ولو على حساب سعادتها .. وهي تحب محمود .. تحبه ولن تكون لغيره ابدا
فتحت عينيها عندما أحست بضغط مفاجئ على أصابعها .. ثم أجفلت عندما رأت عيني محمود مفتوحتان .. تنظران إليها بثبات .. خفق قلبها بقوة .. وارتجف جسدها كاملا .. وهي تحس بالمشاعر العاصفة تجتاحها
كان ينظر إليها بطريقة جعلتها تعجز عن قول أي شيء .. عيناه العسليتان النصف مغمضتين .. كانتا تنظران إليها بشيء من الانفعال 00 وكأن وجودها إلى جانبه كان آخر ما توقع رؤيته
لم تعرف ماذا تقول .. هل تعتذر لوجودها المزعج إلى جواره .. أم تهنئه بالسلامة .. أم تجهش بالبكاء ؟
عيناه كانتا قد لاحظتا الدموع التي بللت وجنتيها .. فهمهم بشيء من أسفل قناع الأكسجين .. فأسرعت تقول بلهفة :- لا تقل شيئا .. سنتحدث لا حقا بكل شيء .. فور أن تتعافى بإذن الله وتقف على قدميك مجددا
لم تتوهم نانسي رؤية دموع تتلألأ في العينين الذكوريتين .. رؤيتها لضعف محمود الغير مألوف .. جعل قلبها يتمزق .. ودفعها لرفع يده نحو شفتيها لتطبع قبلة قوية على ظهرها .. ثم تضع راحتها على وجنتها مستمتعة بالاتصال الوحيد المتاح بينهما .. نبهها صوت الممرضة الخافت إلى أن دقائق الزيارة المتاحة لها قد انتهت .. وأنها تستطيع رؤيته بعد ساعتين وفقا لجداول الزيارات المفروض على القسم .. تشبثت أصابعه بيدها .. فطمأنته متماسكة :- لن أذهب إلى أي مكان .. سأعود لاحقا لرؤيتك .. أعدك
تركت يده .. وخرجت لتجد ماهر في انتظارها ... فلن تستطع كبح دموعها أكثر .. انهارت باكية كما لم تفعل يوما .. وكأنها قد استنفذت كل قدرة لديها على التماسك .. أمسكها ماهر .. وأجلسها على أحد المقاعد .. وهو يقول :- اهدئي يا نانسي .. ستؤذين نفسك والطفل بهذه الطريقة
ولكنها استمرت بالبكاء فأمسك ماهر بكتفيها وهزها برفق وهو ينظر إلى عينيها قائلا بحزم :- محمود بحاجة إليك يا نانسي .. يجب لأن تتسلحي بالقوة لتقفي إلى جانبه في محنته
كلماته كانت بالضبط ما احتاجت نانسي إلى سماعه كي تستعيد رشدها وتتماسك مجددا .. خاصة مع الأعين الحاقدة التي انصبت عليها كراهية لوجودها هنا
بعد ساعات .. غادر العم طلال متحججا بالأعمال المتراكمة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه في غياب محمود .. ثم غادرت ريم برفقة أمها التي أصابها التعب بعد قضائها الساعات في انتظار أخبار عن محمود .. لم يبق هناك سوى ماهر وفراس اللذين ظلا إلى جانب نانسي طوال الوقت .. قال فراس وهو يجلس إلى جانبها :- أنا آسف لما فعلته كل من ريم ووالدتي يا نانسي .. إنهما قلقتان على محمود .. نحن هنا منذ البارحة وقد أرهقت أعصابنا جميعا من شدة القلق
تمتمت :- لست غاضبة منهما
كانت غاضبة .. ولكنها لم ترغب بإزعاج فراس الطيب القلب .. قال لها :- أنا سعيد لأنك هنا يا نانسي .. محمود بحاجة إليك .. وأنا لا أقول هذا بسبب الحادث .. فهو في حالة سيئة منذ تركته ورحلت .. محمود يحبك يا نانسي ولا يستطيع العيش بدونك
تقبلت كلامه صامتة ولم تعلق .. لم تستطع التفكير في هذه اللحظة بمشاكلها مع محمود .. كل ما كان يشغل عقلها هو شفاء محمود وعودته كالسابق .. قال لها ماهر بعد فترة :- نانسي .. أنت متعبة .. دعيني آخذك إلى البيت لترتاحي قليلا وسأعيدك لاحقا
قالت بحزم :- لن أتحرك من هنا حتى أطمئن على استقرار حالة محمود .. فلا تتعب نفسك بالإلحاح علي يا ماهر .. إن كنت متعبا فلتذهب .. لست مضطرا للبقاء
قال غاضبا :- هل تظنين بأنني عديم الرجولة لأتركك في ظرف كهذا يا نانسي .. لن أتركك وحدك حتى لو دفعتني دفعا من هنا
جاء لاحقا ضابط الشرطة لطرح أسئلة على نانسي فأجابت بمساعدة ماهر الذي حكى عن السيارة الزرقاء التي حاولت صدم نانسي أمام الكلية .. وعندما رحل قال ماهر :- أرجو أن يمسكوا بالمجرم الحقير في أسرع وقت .. من قد يرغب بإيذائك أنت ومحمود معا يا نانسي ؟
دخلت نانسي لرؤية محمود عدة مرات .. وفي كل مرة كانت تجده نائما .. فتجلس إلى جانبه تتأمل ملامحه الوسيمة الشاحبة بشوق ولهفة .. حتى تخرجها الممرضة بهدوء ولطف .. تم نقل محمود أخيرا بعد ذلك إلى غرفة خاصة بعد أن اكمئن الأطباء على استقرار حالته .. دخلت نانسي إلى الجناح المرفه المخصص له .. لتجده بين يدي الممرضات الحريصات على راحته .. والطبيب الذي انهمك بفحص مؤشرات محمود الحيوية وجروحه مطمئنا عليه قبل أن يغادر .. دخل معها كل من ماهر وفراس .. وأسرعا يهنئان محمود بالسلامة بينما رد هو عليهما شاكرا بهدوء .. وقد بدا رغم شحوبه وضعفه .. متماسكا وصلبا .. وكأنه يأبى التخلي عن هيبته رغم كل شيء .. نظر إلى نانسي التي وقفت بعيدا دون أن تتفوه بحرف .. وسألها بهدوء :- كيف حالك يا نانسي ؟
ارتجفت بلا سبب وهي تعجز عن الرد .. فاعتذر كل من ماهر وفراس .. وغادرا تاركين نانسي تواجه الموقف وحيدة
قال لها :- اقتربي
مشت بخطوات مرتبكة نحو السرير .. دون أن تجرؤ على النظر إليه .. ووقفت قريبا منه فقال :- ألن تنظري إلي ؟ أيبدو مظهري بشعا إلى هذا الحد بهذه الضمادات ؟
كلماته المداعبة .. كانت كافية لإشعال فتيل مشاعر نانسي المتحفزة للانفجار .. فتدفقت دموعها وهي تبكي بلا تحفظ .. رفعت يدها نحو فمها في محاولة منها لكبت شهقاتها التي تعالت بدون فائدة ... فاضطربت عيناه وهو يمد يده إليها .. فأسرعت تجلس على طرف السرير .. وتنحني نحوه داسة وجهها في تجويف عنقه .... تبكي وتبكي وهي تشم رائحته .. وتحس بدفئه غير مصدقة لأنه هنا .. إلى جانبها .. على قيد الحياة .. لم يكن قادرا على رفع يده نحوها .. وقد رغب بشدة في التخفيف عنها .. في لمسها .. والإحساس بها .. همس بانفعال :- انظري إلي .. أرجوك .. أريد أن أراك
رفعت رأسها .. ونظرت إلى وجهه الحبيب الذي لم يفصله عنها سوى مسافة قصيرة .. نظرت عيناه إلى وجهها تتأملان كل جزء من ملامحه الناعمة .. عينيها الباكيتين .. وفمها المرتجف .. قال بصوت أجش :- أريد أن أقبلك .. أرجوك
رجاءه مس فؤادها في الصميم ... فمالت بلا تردد تضع فمها على فمه بشوق تقبله بحرارة .. ثوان مرت .. دقائق .. لم تعرف .. وكل منهما غائب في شوقه إلى الآخر .. حتى اتكأت دون ان تدري على كتفه المصاب فتأوه مما جعلها تبتعد مذعورة وهي تهتف :- يا إلهي .. انا آسفة .. كم انا غبية
:- لا تعتذري .. إن كان علي ان اموت فأنا أفضل الموت بين يديك
أسرعت تضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام قائلة بصوت أجش :- لا تقل هذه الكلمة مجددا .. انت لن تموت .. يجب ان تشفى وتخرج من هنا سليما معافى .. فابننا في حاجة إلى وجودك إلى جانبه
لم تعرف إلى أي حد أثارت كلمة ابننا الدفء في قلبه .. إلا انه نظر إلى وجهها قائلا برقة :- ابننا فقط
ارتبكت .. وقبل ان تجد ردا على استفساره .. ارتفعت طرقات على الباب .. دخلت بعدها كل من السيدة منار وريم التي تجاهلت تماما وجود نانسي .. وأسرعت تطبع قبلة ساخنة على خد محمود وهي تقول بلهفة :- حمدا لله على سلامتك يا محمود .. كيف تشعر الآن ؟ هل تتألم ؟
بينما قالت السيدة منار بصوت مفعم بالمشاعر :- لقد قلقنا عليك للغاية .. لم نتحرك من المستشفى حتى أكد لنا الطبيب بانك بخير .. وأن حياتك ما عادت في خطر
شكرهما محمود بهدوء .. بينما تراجعت نانسي إلى الخلف شاحبة الوجه .. وقد اعاد لها منظر تقبيل ريم له ذكرى ذلك المشهد الذي كان سببا في تركها البيت
قالت منار :- لا أصدق أن أحدا قد يرغب بقتلك .. ليس هناك من يكرهك أو يتمنى لك الأذى .. أتمنى ان يمسكوا بالفاعل في أسرع وقت لينال جزاءه ويتعفن في السجن
ثم نظرت إلى نانسي بطريقة ذات معنى جعلتها تصدم من التلميح الواضح .. هل تتهمها هذه المرأة بمحاولة قتل محمود ؟
ربتت ريم على وجنته وهي تقول بعاطفة جياشة :- لقد كدت اموت من القلق عليك .. الحمد لله أنك بخير الآن
تجاهل ريم وهو ينظر إلى نانسي التي تراجعت حتى وصلت إلى الباب وهو يقول :- نانسي .. إلى أين تذهبين ؟
نظرت إليه وهي ما تزال مذهولة من اتهام منار الضمني .. ومن الحميمية الصريحة التي غلفت معاملة ريم له .. وقالت باضطراب :- أنا .. يجب أن أذهب
كسا الوجوم وجهه وهو يقول :- لست مضطرة للرحيل
أسرعت منار تقول :- دعها تذهب يا محمود .. لقد قضت وقتا طويلا وهي تنتظر خبرا عنك .. لابد انها مرهقة .. لولا وجود صديقها الشاب الذي ساندها بحماس لانهارت من التعب
قالت ريم بلؤم :- هذا صحيح .. لقد نامت على كتفه عدة مرات في غرفة الانتظار .. المسكينة
أخفض محمود عينيه متحاشيا النظر إلى نانسي .. وقد خلا وجهه من أي تعبير .. وكأنه يدينها على وصف منار وريم لطريقة دعم ماهر لها .. ألا يستطيع أن يرى إلى أي حد كانت منهارة ؟ وأنها لولا دعم ماهر وسط رفض عائلته لما تمكنت من الصمود لحظة ؟
استعادت قوة صوتها وهي تقول :- أنت بخير الآن .. ولم تعد بحاجة إلي
تمتم بهدوء :- بالتأكيد
كبتت نانسي الألم العميق الذي أحست به .. لم يحاول محمود تصحيح كلامها .. لم يصر عليها لتبقى .. وكأن وجود عائلته حوله وريم بالأخص الملتصقة به في هذه اللحظات أكثر من كافي بالنسبة إليه
منعت دموعها بصعوبة من خيانتها .. وحافظت على هدوئها .. وما تبقى من كرامتها وهي تقول :- الوداع يا محمود .. وحمدا لله على سلامتك
استمر محمود في تحاشي النظر إليها .. فما كان منها إلا أن فتحت الباب وخرجت .. وأغلقته ورائها بهدوء شديد
إلى الأبد هذه المرة

رواية عندما تنحني الجبال ..بقلم بلو ميWhere stories live. Discover now