الفصل الرابع

1.9K 35 3
                                    

اقشعر بدن روكسى لهذه العاطفة الجياشة التى بدت فى صوته. لم تكن تفهم كيف يتعلق قلب إنسان بحجارة و بلاط بهذا الشكل, ناهيك عن حقول و اشجار. إن المنزل هو مكان تأوى إليه بعد عناء العمل. و بالنسبة لها كان ذات مرة مسكن قوم أخرين, ذلك حين توفى والدها بعد عيد ميلادها بقليل و انتقلت والدتها بها لتعمل لدى عائلة كبيرة فى لندن.
و حين انتقلت والدتها لتعمل فى كارنوك, عاشت فى مساكن الممرضات, ثم فى سكن مشترك فى نيويورك. و حين اصبح لها مسكنها الخاص, لم تكن مرتبطة به عاطفياً, و من ثم كان صعباً عليها أن تفهم هذه العاطفة القوية من ايثان.
ورأت أن الأمر قد تجاوز الحد و أن عليها أن تصفيه فقالت فى تردد:
ـ ايثان هناك أمر يجب أن اخبرك به, أننى... لقد.... رباه, هذا شنيع. لقد خدعتك.

و تصلبت شفتاه فى خط مستقيم و سألها كما لو كان دهشاً:
ـ أحقاً؟ منتديات ليلاس
و لم تكن نبرته مشجعة. و كان الأمر أصعب مما توقعت:
ـ لقد كان غباء منى, و لكن يجب أن تسمع لتبريرى حتى تفهم موقفى.
و ردد فى صوت أجش:
ـ حسناً, أننى مصغ.
و كانت تود بإلحاح أن تستعيد فكرته الطيبة عنها, و لكنه سوف يفقد الثقة بها لو فعلت, و لكن على أية حال, فجلسة فتح الوصية يوم الاثنين و سوف تظهر شخصيتها فيها.
و بدأت تتحدث و هى تضم اصابعها بشدة:
ـ حين جئت تسأل عن روكسانا بيج, اردت أن أعرف السبب أولاً. فقد بدا الأمر غريباً أن تقطع كل هذه المسافة لتقابلها.
قاطعها:
ـ لقد أخبرتك. لقد تصادف وجودى فى لندن, و كان امرأً يتطلب المناقشة وجهاً لوجه.
كان سيسهل عليها الاعتراف لو لم يتخذ هذا المظهر الصارم. إن لديه براعة فى إفقادها ثقتها فى نفسها, دون أن يعنيه أن يكون وسيماً أم لا. و ضايقها تصرفه ذلك, فقد كان يخفى وراءه شدة مفزعة, و أكملت مضطربة:
ـ لقد تحدثت أنت أقصد.... لقد كان ذلك.....
ثم توفت و هى ترى الصدر الضخم ينتفخ بالغضب :
ـ ايثان....
و سأل محتداً:
ـ تحدثت أنا.....؟ 
و كانت نبرته تحمل شيئاً من الاستغراب.
ـ نعم, معى. و كان ذلك....
و تصلب جسدها حين مد يده و راء ظهرها, ثم احاط عنقها به. و سرى الخوف فى بدنها و قال يستحثها:
ـ نعم؟
لعقت شفتيها بعصبية. و امتدت يده إلى شعرها, و ادارت رأسها تجاهه. و ارتعدت للنظرة التى رماها بها, باردة, عدائية, اخترقت قلبها كمدية من الجليد.
ـ ايثان.....
و قال من بين اسنانه:
ـ هيا!
قالت بنبرة بؤس:
ـ أنا روكسانا بيج
و انتظرت الانفجار.
و رد عليها باقتضاب:
ـ اعلم ذلك.
و سرى الهلع فى كل بدنها:
ـ تعلم؟ متى...؟ عند أية نقطة ادركت ذلك؟
و بدأت السيارة تخفف من سرعتها. و تجاهلها عدة دقائق مركزاً على الطريق و هو يدخل فى حارة ضيقة. و قالت متوسلة:
ـ قل شيئاً.
كان وجهه جامداً و هو يتجه إلى منزل يؤدى إلى محطة خدمة. و كان فى تصلبه يعطيها انطباعاً يثير اضطرابها, و كان شعورها أكثر من مجرد خيبة أمل فى لعبة غبية ورطت نفسها فيها.
كان جسده كله ينبئ عن أن الغضب يسيطر عليه بعناية بالغة, من عينيه الباردتين لصوته الأجش, إلى قدميه و هما تتبادلان الوضع على الفرامل و دواسة البنزين بعنف. و قررت ألا تبدى أى قدر من الدفاع عن نفسها و هو فى حالته المزاجية تلك.
و اتجه إلى مكان متسع من جانب الطريق, و أوقف السيارة, و خيم الصمت بينهما ثقيلاً, و شعرت بأعصابها تتوتر.
متى عرف بحقيقتها؟ هل قبل قبلته الملتهبة؟ و دفعت الباب, و قفزت من السيارة و أخذت تعب من هواء الليل, شاعرة بالوهن يسرى فى جسدها. و شعرت بجرح عميق من الحرج و هى تتذكر كل لمسة من يده, و كل كلمة كاذبة سخر منها بها. و همست فى الظلام:
ـ إيها الخنزير القذر.
لقد لعب بها و استغلها عن عمد, عالماً برغبتها فى استخلاص الحقيقة منه. و شعرت بالاذلال و تحطم الكرامة.
و عادت إلى كرسيها و قد خارت قواها فجأة. فارتمت عليه تحاول فى يأس أن تجمع شتات نفسها. و غمغمت بشفتين باردتين:
ـ يا لك من وغد.
فسألها ساخراً:
ـ و ماذا عن يا عفريته؟
و اشتعل جسدها و غمغمت:
ـ إنى آسفة.
ـ أوهـ, و هل يصلح هذا الأسف الأمور؟ هل اغفر لك إخفاءك شخصيتك, و محاولة إغرائى بمفاتنك لتعرفى سبب طلبى لك؟
و غمغمت:
ـ لم يكن الأمر كذلك.
فغضب قائلاً:
ـ بل كان. و كنت اعطيك درساً. و حين كنت فى مسكنك, كان يخطر ببالى أن أجعلك مجنونة بىّ لولا أنه كان لدى أمور اهم
كانت نبرة صوته مفعمة بالازدراء.
و ردت محتدة:
ـ لم تكن لتفعل بىّ ذلك.
فأجابها صارخاً فى وجهها:
ـ بل كنت سأفعل و أنت تعرفين كم أنا عنيد و لا أعرف الرحمة.
و سالته متخاذله:
ـ و كيف عرفت حقيقتى؟
فأجاب و السخرية تملأ عينيه:
ـ لقد كان حماسك زائد عن الحد. رغم جاذبيتى لم أكن لأثير كل ما بدا منك من انفعال هكذا. ثم أن البائعة بدأت تهتف باسمك, و اعتقدت لحظتها أننى اخطأت السمع, فأين فتاة الجنازة البدائية من تلك اللعوب التى دخلت المحل. ثم أننى تعرفت على صوت سكرتيرك رغم سوء الخط التليفونى.
قالت مدافعة عن نفسها:
ـ لقد كنت ضائقة النفس بتصرفك معى فى اثناء الجنازة. و قد كان خطا منك أنك لم تخبرنى بمعرفتك شخصيتى.
ـ و افتقد كل تلك المتعة؟ لقد سرنى أن اسايرك حتى أعلم سبب تقمصك شخصية ماتاهارى, أو بالاحرى.... العفريتة.
و اشتعلت بالغضب, فلم يحدث أن تغلب عليها رجل بتلك الصورة. و سالته ببرود:
ـ ماذا تريد الآن؟ 
فرد باقتضاب:
ـ المنطق. لماذا كنت فى ذلك المنظر المزرى فى جنازة والدتك؟
فردت بوهن:
ـ كنت قد غادرت لندن فى يوم مشمس, و فوجئت بالمطر يهطل, فاستعرت بعض الملابس من صاحبة النزل الذى نزلت فيه.
ـ و إذا كنت لم تقصدى إغرائى كما تقولين, فما سبب تصرفك معى؟
ـ لقد قلت لك, كان الشك يملأ قلبى تجاهك.
فصرخ وجهه على بعد سنتيمترات من وجهها:
ـ كاذبة, أيتها الفاجرة الخسيسة
واتسعت عيناها بتعاسة:
ـ ماذا......؟
تمتم بشئ و أدارها لتواجهه, و بدا كما لو كان سيبطش بها. و كانت ملامح وجهه تنطق بالكراهية, و قالت من بين اسنانه:
ـ إنى أعدك, لو كنت تسخرين منى, فسوف أجعلك تندمين اشد الندم على محاولتك خداع ايثان تريمين.
استشاطت غضباً. إذا كان كل هذا الغضب منه, لاكتشافه أنه كان يغازل ابنة الخادمة, فإنه يكون نذلاً. و سألها محنقاً:
ـ لقد كنت تتلاعبين بىّ طوال الوقت, أليس كذلك؟ ألهذا قبلت دعوتى للسفر إلى كارنوك ! لتمارسى إغرائك لىّ, ثم تفاجئيننى بادعائك حقاً على ارضى؟ 
ثم ضيق عينيه:
ـ هل أتصل بك بنها ليجون؟
ـ نعم حينما كنت أتحدث مع جو. ماذا تقصد بخصوص الارض؟
و اشتدت قبضته على كتفها بوحشية, و تراجعت أمام هذه الضغينة التى تشع منه, و لكنها انجذبت إليهحتى شعرت بلفح انفاسه على وجهها. و صرخ فيها:
ـ إنك تعلمين شيئاً, أليس كذلك؟ 
و هزها بقسوة:
ـ ما هو؟ ما الذى فى الوصية؟
و انفجرت تبكى بغضب:
ـ لست أدرى, كف عن هذا !
لكنه رفع صوته في وجهها:
ـ بل تعلمين! امك كانت خبيثة مثلك, لو فكرت لحظة...
ثم رمش بعينيه:
ـ ....لو فكرت لحظة أنك سوف تدعين شيئاً من ميراثى, فسوف اقذف بك من السيارة المنطلقة.
و عضت شفتها, رعباً و قلقاً. و غمغمت:
ـ كن معقولاً, لابد ان هناك وصية بشئ ما طالما طلبت إلى جلسة سماع الوصية.
و اطبق على ذقنها بسبابته و ابهامه و حملقت إليه كالممغنطة بعينيه اللتين تشعان كراهية قاتلة و ارتعشت شفتها السفلى.
و قال بمقت شديد:
ـ لا تحاولى فلن يجدى ذلك. لا اظنك تدركين ما اشعر به تجاهك هذه اللحظة. خبرينى بصدق, هل حدثتك امك عن اية وصية؟
ـ لا ليس إلا...... 
اطبقت فمها, نادمة على زلة لسانها, و صرخ و هو يهز فكها إلى اعلى:
ـ خبرينى.
همست:
ـ ايها الوحش, إنك تؤذينى...
خفت قبضته قليلاً:
ـ لم تقل لىّ أمى إلا ان والدتك كانت تهدد حرمانك انت و اختك من الميراث, ففلقد كانت تحمل لكما الضغينة. لكن امى لم تذكر لىّ شيئاً عن ان هذا التهديد قد وُضع تحت التنفيذ.
و ارتمت غلى الوراء حين اخلى إيثان سبيلها, ليتخذ موضعه ببطء خلف عجلة القيادة.
و اختلست نظرة إليه, فوجدته يحملق في الفضاء, و الغم يكسو جسده كاملاً. غمغم:
ـ إنها لن تفعل, فلا يمكن ان تمحو توارث أجيال من آل تريمين هكذا. فنحن في كارنوك منذ قرون, إننا ننتمى إلى هذا المكان.
و اغمض عينيه من شدة الألم:
ـ لا يمكن ان يكون هذا صحيحاً. و كز على اسنانه:
ـ لن اغادر المكان إطلاقاً.
ـ ربما لن تضطر لأن....
صرخ فيها: اخرسى, لقد سببتى لىّ ضسقاً لا يقل عنها, لا تلفظى بكلمة طوال الرحلة. فيبدو ان بيننا وثاقاً مؤقتاً... سوف اجد لك فراشاً في كارنوك الليلة ثم تدبرى امورك بنفسك بعد ذلك.
احتدت عليه قائلة: إننى لم ازعجك من قبل.
ادار السيارة و انطلاق بعنف, جسده ينتفض من الغيظ.
و تخاذلت في مقعدها تتمنى لو تبتلعها الأرض, لقد أخطات. فهو ليس بالأنسان الكامل. لكن ذلك لا يبرر ما فعلته. إن روح المرح لديها قد اوردتها إلى ما لا تعرف عقباه, و ودت لو يعود الزمان إلى الوراء.
لقد كان غباء منها ما فعلته, ان تتخفى وراء شخصية وهمية حتى لا يؤذيها بتلطفه الهازئ, فإذا بها تتعرض لمقته و ازدرائه, و هى مستحقة ذلك.
و لكنها ابداً لم تستغل الظروف مثله. فقد كانت صفاقة منه أن يظهر لها احتقاره لها بهذه الصورة.
لقد اصبح لهما كل الحق الآن في ان يكرها بعضهما. يا لغرابة تحول القدر.
ربما بعد قراءة الوصية و اطمئنانه على الضيعة بين يديه, يكون احسن مزاجاً, فتعتذر له الاعتذار اللائق, و تخبره بانه كان مخطئاً بشأن والدتها التى رماها دون وجه حق بأنها خبيثة. و كان امراً غريباً ان يرميها بذلك الوصف.
وكانت رحلة فظيعة, لم يتوقف خلالها لحظة مدة خمس ساعات, و كان رأسها يطن من قلة الطعام. وكان الرعب يملؤها كلما فكرت في مشاعره, و هو يقود السيارة و عيناه تقدحان شرراً, و جسده مشحون بالتوتر.
آهـ لو تتمكن من النوم! ولكن الجو كان مشحون بالعداء لدرجة جعلتها في قمة التوتر.
و اندفعا عبر الجسر المعلق الذى يعبر نهر تامار الذى يفصل دافون عن كورنوول و بعد ثمانية كيلو مترات دار إثان داخلا إلى طريق ضيق يلتف و يتلوى بلا نهاية, وسطه ملئ بالعشب, و جانباه محددان برصيفين مرتفعين. و اخذ يقود ببطء, مضطراً إلى التوقف مرتين لمرور قنفذ و ثعلب في الطريق امامهما, واضحين في ضوء كشافى السيارة.
و اندفعت فجأة جانباً و هو يدور داخلاً ممراً توقف فيه تاركاً المحرك يدور و رأت روكسي لافتة منزل كارنوك و نظرت إلى إيثان فوجدته يزفر و قد استرخت كتفاه. و على ضوء الكشافين و ضوء القمر الفضي, لاح لها الممشي يتلألأ بالاشجار الباسقة, بينما تترامى الحقول على جانبيه ممتدة غارقة في الظلام, و على البُعد ضوء يتلألأ من منزل ريفى. و توترت اعصاب روكسي إذ ادركت انه المنزل الوحيد على مدى البصر الذى يلوح في ظلمة الليل المخيمة غيره.
و بدأت السيارة تتحرك ببطء تحت الفرع السوداء و اوراق الشجر الغريبة المنظر ثم بدأت المشايات المكسوة باالنخيل, و التكعبيات تبدو لعينيها, و اخذ بياض المنزل الجرى الضخم يظهر شيئاً فشيئاً تحت ضوء الكشافين, من خلال النبات الكثيف الذى يختفى وراءه.
بدون ان ينبث بكلمة اوقف إيثان السيارة امام بوابة ضخمة, و نزل من السيارة يمد جسده. لما كانت زهرة منسية لا تدرى ماذا تفعل فقد نزلت هى الأخرى, سعيدة أن تريح تقلصات اطرافها.
اخذ الصمت المطبق يكتم انفاسه, فطوال حياتها و هى معتودة عل خلفية من ضوضاء المرور, و صك اذنيها صوت البومة – كان صوتا جميلا في هدوء الليل, مثيرا للشجن و قال لها باقتضاب :
ـ ادخلى و ساحضر حقيبتك
قالت:
ـ و لكن يجب ان تفتح لى الباب أولاً.
فماها بنظرة صاعقة:
ـ أننا في كورنوول حيث لا يتعين ان توصدى اى شئ حولك, بما في ذلك الغرف.
شعرت بجسدها يشتعل, و لكنها رفضت أن تتركه يعذبها, فيجب ان يخرج احدهما في هذذا الموقف بشئ من الكرامة. و انقبض صدرها لهذه الفكرة.
مدت يدها إلى مفتاح النور, و لكن سرعان ما انزلتها و قد انقبض صدرها و هى تمسك بإطار الباب, لا تريد ان ترى أى شاهد على النار التى قتلت والدتها و سألها بصوت اجش و هو يمرق امامها, و يغمر المكان بأضواء اخترقت عيناها المغلقتين:
ـ ماذا هناك؟
و ردت بصعوبة:
ـ النار......
ـ آهـ, لقد نسيت أن اخبرك, غنها كانت محصورة في الناحية الآخرى حيث يوجد المطبخ. و قد كانت والدتك و والدتى يوفران من التدفئة و من الأعمال المنزلية بغلق الجزء الأكبر من المنزل, و كانتا تنامان في الغرقة المجاورة للمطبخ, و قد جددت المكان تماماً.
وجاهدت لتتمالك نفسها مرة أخرى, تود لساقيها المضطربتين أن تتحركا. وحين فتحت عينيها مجهدة, وجدت انه ينظر إليها في سخرية مريرة, و سألها:
ـ اكنت تحبين والدتك إذن. عجباً لك فقد عدت على وجه السرعة بتلك الصورة, و لم تهتمى بان تنظرى إتمام مراسم الجنازة. 
سألته:
ـ ماذا في ذلك؟ لقد علمت أن احداً منكما لم يكن يريدنى و اعتقد أن الشعور كان متبادلاً.
و اظلمت عيناه للذكرى:
ـ لم اشعر باى تعاطف مع ابنة ميلى بيج لقد حالت امك بينى و بين امى, و احالتها إلى امرأة عجوز مدمنة و عاجزة. لهذا اكرهها, و من الأفضل لك ان تدركى ذلك.
و امام عينيها الدهشتين, حمل الحقائب و صعد بها السلم الخشبى بديع الصنع قاطعاً منحنياتها في خطوات ضخمة اضطرت إلى أن تجرى لتلاحقها.
و صرخت وراءه: 
ـ ما هذا الذى تقول؟ لا يمكن ان تظن هذا بوالدنى! لقد كانت في منتهى الطيبة و الرعاية..........
قاطعها محتداً:
ـ منتهى الطيبة و الرعاية.
و قطعت رجلاه الطويلتان منبسط السلم بسرعة فزادت من سرعتها لتلحق به.
ـ يمكنك أن تستخدمى هذه الغرفة. فهى مخصصة للوصيفات, سأحضر بعض الاغطية.
و غاصت بتعاسة في سرير صغير.... لم تشغله وصيفة منذ سنوات, يدل على ذلك رائحة العفن الناتجة من عدم الاستعمال. و احست فجأة بالوحدة و الضياع, و حل بها إجهاد جعلها تشعر بأنها غير قادرة على الحركة. و القى اليها إيثان العابس بوسادة, و ملاءة و بطانية, و لكنها لم تبد حراكاً, بل ظلت تحملق ببلادة إلى الفراغ من خلال جفنين مبللين مسهدين. و توقف, و سحب الرعد تتشكل على وجهه, ثم سألها بلهججة لاذعة:
ـ ماذا تنتظرين؟ هل اضعك بنفسى في الفراش؟
فهمست: ـ أبها الخنزير
فغمغم بتثاقل:
ـ يمكننى ان اكون كذلك, يعلم الله انه يمكننى.
استدار راسها ببطء لتنظر إليه, و حينما رأت الرغبة الصريحة في عينيه, هطلت دموعها مدراراً, فقد كان سوء التفاهم السخيف الذى يحول بينهما سبب التعاسة لكليهما, و لابد أن يتوقف.
قالت بصوت متجهد:
ـ إيثان.....
رفع جسدها بلا شفقة, و سحقت شفتاه شفتيها في قبلة قاسية حتى احست بصلابة اسنانه تحت شفتيها الغاضبتين. مال رأسها إلى الوراء من قسوة الهجوم, و انثنى جذعها إلى الخلف حتى شعرت بعمودها الفقرى يكاد ينقصم ثم اطلق سراحها بعنف لدرجة انها عادت طائرة إلى الفراش و صرخ فيها:
ـ إننى اكرهك, و سوف تندمين أنت و امك على ما سببتماه من إضرار لأسرتى.
تفجر بداخلها شعور بالظلم, فجففت دموعها بموجة عارمة من الضراوة انطلقت على اثرها تجاهه, و لكنه امسك بها على طول ذراعيه, مبتسماً في حنق و حاولت روكسي تخليص رسغيها من قبضته المؤلمة.
ـ انك تستاسد على يا إيثان تريمين, تتهمنى ظلماً و تهددنى, و تقبلنى و تحاول إغرائى و تستخدم العنف البدنى معى, كل هذا باسم شرف اسرتك الغالى.
ضحك ضحكة خالية من اية مشاعر و قال بعذوبة:
ـ ايتها المشاكسة, جميل منك هذه الهجمة النارية و هذا الصراخ. نامى في هدوء إذا استطعت, مع مخلوقات الظلام التى تنادى على بعضها في الخارج و إذا.... 
اخترقت عيناه جسدها المتصلب بإزدراء :
.... ما شعرت بالوحدة, فلا تأتى إلى, بل انطلقى إليها و اعوى معها في ضوء القمر, و مارسي عليها سحرك.
صفع الباب وراءه, جاهدت بين دموعها و نعاسها ان ترتب الفراش. ثم القت بنفسها عليه و هى لا تزال في ثيابها الفاخرة البيضاء. إن نومها عارية, كعادتها, كان جرا للمشاكل. و انطبق جفناها قبل ان ترتطم رأسها بالوسادة و تبدأ عضلاتها المشدودة في الاسترخاء.
استيقظت الطيور في اعشاشها. كانت قد ظلت راكدة على بطنها اغلب الوقت. ترفس بقدميها حتى انحسرت عنها الملاءات. و تردد في الفضاء صوت مزمار صاف, استمعت إليه بين النوم و اليقظة, بينما انغام اغانى الطيور تنساب سلسة بصورة تدعو إلى الدهشة. ثم اقشعر بدنها حين سمعت صوت تنفس في حجرتها, فانقلبت على جانبها متجمدة.
كان مستنداً على الباب, يراقبها في تجهم بعينين تجمعان الرغبة الفاجرة و الإزدراء, مركزاً على الأماكن التى انحسرت عنها الثياب من جسدها, و سرت في بدنها نفحة من الرغبة كرهت نفسها على اثرها, لكنها كرهته اكثر, لما سببه لها من عجز. وصرخت فيه:
ـ أخرج! كيف تتجرأ على ان تقف هكذا متطلعاً في و أنا نائمة
فغمغم:
ـ لقد اتيت لاوقظك.
ـ أننى مستيقظة.
ـ اريدك ان تتناولى فطورك قبل ان انصرف إلى عملى.
كان يرتدى بنطلون قطنى ذا لون اخضر, و قميصاً شمر كميه كاشفاً عن ذراعين مفتولتى العضلات. نظرت إليه عابسة,, ثم القت بنظرة غلى ساعتها, و زمجرت, فقد كانت الساعة السادسة صباحاً. و قالت متهكمة:
ـ هل استيقظت في هذه الساعة لتحلب الأبقار؟
ـ بدلى ثيابك انزلى ثم استديرى إلى اليسار.
جلست وحيدة تتناول الطعام, شاعرة بالوحشة في المطبخ الريفى الفسيح. و كانت مرتدية ابهى حلة لديها, بلون اصفر يظهر مفاتن جسدها.
و لكنها كانت متناقضة مع المكان, و كانت تعلم ذلك. و كان ذلك متعمداً, فقد قصدت الا تبدو مالوفة للمكان, لم ترد لمنزله ان يبعث البهجة في نفسها.
عاد إيثان بعد فترة, مرتدياً حلة رسمية انيقة. و انتظرها صامتاً إلى ان فرغت من فطورها, ثم قادها إلى السيارة و قال لها باقتضاب:
ـ سوف احدد موعد مع بنهاليجون اليوم, و لا اريد ان ارى شيئاً منك إلى يوم الأثنين. و القى بحقيبتها في السيارة. سوف تنتظرينى في مقهى القرية إلى ان احضر لاخبرك بالموعد, و ترحلى إلى لندن على الفور.
لم يكن هذا عاجلاً بالقدر الكافى و اخذت عيناها تتجولان في المنظر وراءهما و هما يتحركان ببطء مبتعدين عن المنزل الذى كان يلمع في ضوء الشمس مالأيس كريم و تمتد من حواليه المرجة المخضرة بالنجيل و تتناثر حواليه اشجار الزيمة و بعض اشجار البلوط الضخمة, و لم تستطيع ان تنكر الجمال الاخاذ لذلك المنظر. كانت كارنوك ترقد في حضن تل منخفض الارتفاع, تحيط بسفحه في سلام, و من خلال الاشجار التى تحف بالطريق, كانت روح روكسي تنخطف كلما مر امام عينيها منظر الوادى المترامى من النهر إلى التلال مرورا خاطفاً.
اخذت روكسي تدير راسها في كل الاتجاهات. و حواليها ازهار النرجس البري الصفراء الكبيرة, و اعشاب الجريس زرقاء الازهار, و كلها تتصارع من اجل المكان. و هى تجاهد الا يفوتها شئ من سحر ما يحيط بها.
و قال إيثان و هو غارق في التفكير:
ـ بديعة, أليس كذلك؟ و لن اسمح بشئ منها ان يخرج من يد العائلة.
فهزت رأسها قائلة:
ـ ولست الومك, انه اشبه بدخول عالم مفقود.
لم يرد وشعرت بالآسي حين بدا يدخلان في الطريق الضيق و تذكرتها صاحبة الخان, و قدمت إليها مالا يحصى من اقداح القهوة و جرائد الصباح, إلى ان حضر إيثان قرب الظهر ليخبرها بأن اجتماعاً سيعقد بعد نصف الساعة.
كانت انابيل جالسة في شرفة صغيرة في غرفة استقبال ضخمة مشمسة وكان وجهها كالحا متجهماً, حين دخلت روكسي, اخذت تقتحم بعينين متفحصتين كل تفاصيل ردائها الايطالى الانيق. و عبرت روكسي الغرفة إلى احد الكراسي المذهبة المصفوفة على شكل نصف دائرة حول مكتب خشبى انيق, حيث جلست بلا مبالاة.
و دخل الرجلان تحدثا مع انابيل المنفعلة, و تاتى لـ روكسي ان تلتقط كلمات تهدئة إيثان إياها.
ـ آنسة بيج, انا جون بنهاليجون.
صافحته شاعرة بود على الفور للمحامى ذى الشعر المصفف بعناية و سألته:
ـ هل سيستغرق الأمر كثيراً, فالظروف....
ورد عليها في صوت ودود:
ـ بصورة غير عادية نوعاً ما. للأسف, إن الوصية لم تكتشف إلا الآن, فقد كتبتها السيدة تريمين بنفسها, و لكنها قانونية تماماً, و كل التوقعات عليها سليمة.
سألته:
ـ و كيف اكتشفت؟
فرد إيثان:
ـ لقد وجدتها اختى في الغرفة العلوية, لقد استغرق تنظيف المنزل كل هذا الوقت لتصل إلى هناك إذ كان المكان في فوضى عارمة.
شعرت بالحنق لهذا التلميح بمقدرة والدتها على القيام بالعناية بالمنزل.
استمعت للقراءة الرسمية, واعيه لـ إيثان الذى يكاد يلتصق بها في جلوسه بجوارها.
و شعرت بالضيق فابتعدت عنه قليلاً, و وضعت ساقاً فوق الأخرى. و اخذ نفساً محنقاً, عبست لم يكن قصدها ان تثير غضبه.
و تشتت تفكيرها فلم تلتقط آخر جملتين قالهما المحامى, و لكن يدا إيثان قبضتا على مسند المقعد بشدة, فعادت بذهنها إلى الموقف, شاعرة بالجو يتكهرب من حولها, و تحولت انابيل إلى تمثال تشككلت شفتاه في دائرة تعبر عن الدهشة. وانحنى إيثان إلى الأمام و قال بصوت رهيب:
ـ ماذا قلت؟
تنحنح المحامى:
ـ ولذا فأنا اوصى بكل ممتلكاتى إلى صديقتى المخلصة و مدبرة منزلى ميلى بيج.
فغرت روكسي فمها من وقع الصدمة و سرت قشعريرة في جسدها و شعرت بالأسي ان تقدر السيدة تريمين خدمات والدتها إلى تلك الدرجة. و انتظرت من المحامى ان يعلن عدم نفاذ الوصية لوفاة السيدتين في نفس الوقت.
و خيم السكون على الجميع و كادت نظرات إيثان تخترق المحامى دون ذنب أو جريرة. ثم زفر قائلاً:
ـ كلا....لا يمكن....لقد أخطأت... ليس كل شئ!
ـ آسف يا سيد تريمين, هذا هو نص الوصية.
و كاد قلب روكسي ينخلع لمنظر وجه إيثان المكروب, و فكرت في مدى وقع النبأ عليه, و كيف ان والدته نبذته بلا رحمة. قال إيثان و قد امتقع وجهه:
ـ ليس هناك من شئ آخر؟ ألم تذكرنى او اختى بأى شئ؟
وطوى الرجل اوراقه قائلاً:
ـ لا شئ سوى ان تبين مدى ضغينتها عليكما.
و صرخت انابيل و هى تندفع خارج الغرفة:
ـ كلا! 
و راقبها إيثان وقد اعجزته الصدمة ان يلحق بها, و كانت يداه متقلصتين على ركبتيه و وجدت روكسي صوتها اخيراً, كما لو كانت قد افتقدت شيئاً حيوياً ثم وجدته:
ـ و لكن الوصية غير نافذة بكل تأكيد؟ فوالدتى ماتت في الحرييق ايضاً, معنى ذلك.........
ورد مستر بنها ليجون:
ـ روكسانا, لم يمكن تحديد وقت الوفاة بدقة, بالنسبة لوالدتك او المسز تريمين, و في مثل تلك الظروف يفترض القانون ان الأكبر سناً هى التى توفيت اولاً. و لما كانت والدتك هى الأصغر في العمر, فقد وريثتها الوحيدة, فقد ال كل ذلك إليك. و تململت في كرسيها, و قد تجمدت اطرافها, و عقدت الدهشة لسانها.
ثم انفجر إيثان و هو يهب في مقعده, ملوحا بقبضته:
ـ اللعنة على كل شئ! ان هذه الوصية قد وضعت تحت ضغط, و إلا فلماذا لجأت والدتى إلى محامين غرباء؟ و لماذا انكرت دمها و لحمها.
و استدار ليواجه روكسي و وجهه يرتجف من الغضب:
ـ سوف اقاوم هذا بكل ما املك و كارنوك ملكى, كل حجر في هذا المبنى, كل شجرة إلى آخر نصل من ورقة من اعشابها! ورد المحامى و قد كسا الجد وجهه:
ـ هناك شهادة طبية ملحقة تبين سلامة السيدة تريمين العقلية. و لك الحق بالتأكيد ان تطعن في الوصية على اساس الاستغلال و لكن نظراً إلى الملاحظات التى ابديتها والدتك حول ما بينكما من عداوة فإننى ارى ان تقبل ما لا مفر منه يا سيد إيثان.
ورد إيثان مغمغاً:
ـ إطلاقاً! طالما تردد نفس في صدرى....! سوف اطعن فيها, بحق السماء سأفعل! لقد استغلت ميلي بيج ثقة والدتى, و منعت اى انسان من ان يزورها. لقد حولتها إلى عاجزة تماماً و سأدفع بهذا إلى اعلى درجات المحاكم مهما كلفنى الأمر. لقد فقدت هذا البيت مرة, و لن افقده مرة اخرى.
و حملقت إليه روكسي مستاءة لكلامه:
ـ إنك مخطى بشأن امى....
و صرخ فيها صرخة مدوية:
ـ كلا, ليس مخطئاً! و سوف اثبت ذلك, و لو أدى الأمر إلى ان اجعل اسم امك في الوحل. و لا سبيل إلى تلافى ذلك بأن تبيعى كل شئ في التو واللحظة فماذا قلت؟
و تحت تأثير الإهانة التى وجهت لأمها, وقفت روكسي ببطء و هى تنتفض و قابلت عينيه بنظرة متحدية, و قالت بهدوء:
لقد قصت مسز تريمين الكثير عنك لـ والدتى, و لكننى لم اصدقها برمتها إلا الآن. لقد رمتك بالوحشية و الخسة, و قد أنبأت تصرفك هذا عن صدق ذلك. و بسبب لك, و ما قمت به من قذف بذئ في حق والدتى, فليس في نيتى ان افعل أى شئ يجعل حياتك ايسر, و سوف احتفظ بـ كارنوك.
و قال محتداً:
ـ ماذا تعرفين عن إدارة مكان كهذا؟ إنه ليس طراز حياتك و قد اعترفت بذلك و كيف ستديرين اعمالك في كارنوك؟
و قاطعته منفعلة
ـ حياتى ليست من شؤونك. مع ذلك, فقد كان على حق. و المنطق يستدعى ان تقومى بالبيع باسرع ما يمكن, و لكن كان هناك شئ واحد مؤكد, و هو اصرار السيدة تريمين على حرمان إيثان من ان يعيش في هذا المكان.
كل ما في وسعها. و كل ما في داخلها, كانت تشعر بالوجل و المرارة العداوة التى بدت من تعبيرات وجهه. ورد هو في تهديد ناعم:
ـ بل ساجعله من شؤونى صدقينى, ستجديننى في وجهك في كل امر تقومى به, و لن يوقفنى شئ. أى شئ.
وجفلت للسم الذى يتساقط من لسانه و شعرت بالارتباك و بالوحشة.
إن إيثان يمقتها, و كان هذا حرياً بأن يدفعها للانتحاب.
نهايه الفصل الرابع
قرائه ممتعه

الحب العاصفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن