الفصل الثالث

8.3K 147 2
                                    


3 ـ القلب الخائن

كان الخريف قد بدأ يولــي ممهداً لقدوم فصل الشتاء الذي
يبطــئ بنعومة متمثلاً بضباب صباحي , وطقس مكفهر بارد ,
وزخات من المطر . بقيت الحرارة مرتفعة أكثر من المعتاد , فترى
النساء والرجال يسيرون في نزهاتهم باللباس الصيفي الخفيف .
بالغرم من كل حكمتها , استمرت جيني بزيارة روبرتو في
المستشفى . . وكانت تمضي معه يوماً نصف ساعة جالسة قرب
سريره . . تمسك بيده . . تراقب النور الساطع في عينيه وهو
يتأملها . كان يمازحها بلطف , كما كان يفعل في الأشهــر الأولى
لزواجها . . مظهراً لها الحنان الدافئ . الذي تتذكره بحزن وأسـى .
تلك الأشهر الأولى كانت أكثر اللحظات سعادة فــي
حياتها . . فروبرتو مُحب مثير , حساس , يعــي تماماً براءتها . يحبها
ويحميها , وإن كان يجرفها معه في لجج رغبته الحارة , العقبة
الوحيدة التي كانت تعكــر صفو تلك السعادة التامة كان والد زوجهـــا
أنطونيو وعدائيته نحوها فهو لم يكن يخفي عن أحد رغبته في أن
يتزوج ابنه من ابنة عمه جيسكا .
بعد عودتهما من رحلة إلى لندن , كمحاولة يائسة لاستعادة
سعادتهما , عادت المشاكل حـــال وصولهما إلى نيويورك . فقد كان
موعد حفلة عيد ميلاد جيسكا ليلة وصولهما . . وكانت جيني حينها
متعبة من السفر , فآوت إلى الفراش باكراً , بينما بقي روبرتو ليحضر
الحفلــة .
لم تستيقظ جيني إلا بعد منتصف الليل على صوت موسيقى
منبعثاً من الأسفل . نهضت من فراشها ومن على فسحة السلم
تطلعت إلى المرآة الضخمة التي تعكس ما في الصالون الطويل ,
فشاهدت جيسكا , مغمضة العينين , تسبح مع الموسيقى بين ذراعي
روبرتو . فعادت إلى فراشها متوترة , والغيرة تنهشها . . . ولم تغط
في النوم إلا حوالي الرابعة صباحاً ولم يكن روبرتو قد عاد بعد إلى
فراشه . . . مع أن المنزل كان خالياً يسوده الصمت .
وكان هذا بالطبع سبباً لخلاف آخــر . وتدخل أنطونيو باستينو
بعنجهيته وكبريائه , مقطباً وجهه قائلاً لها :
ـ إذا كنت تغارين من جيسكا فاسألي نفسك عن السبب ! ألست
تغارين بسبب معرفتك أنها هي امرأة من طبقته , وليس مجرد فتاة
جميلة جاهلة نكـــرة .
عندهــا خلعت جيني خاتم الزواج من يدها لترميه له بينما ظل
روبرتو صامتاً لا يفوه بكلمة . وسارعت إلى منزل أبيها , معتقدة أن
لروبرتو نفس وجهة نظر أبيه , وأنه قد ندم على زواجه منها , لكنها
مع بزوغ أول شعاع لضوء الصباح سارعت إلى منزل باستينو
لمحاولة كسب ود زوجهــا , مهما يكن الثمن .
ما شاهدته يومها لم يكن ليفارق مخيلتها ليلاً ونهاراً ولأشهر
طويلة . . . روبرتو غافٍ في فراشه . . وإلى جانبه جيسكا يعلو
وجهها بسمه انتصــار .
لم تزل هذه الذكرى تحز في نفسها حتى هذه اللحظات . . لم
لم تستطع النسيان , كانت تعرف بالطبع , أن هناك الكثير من النساء
قبلها . . ولكنها آمنت بكــل سذاجــة , أن روبرتو بعد قســمه
بالإخلاص , لن يفعل ما قد يســــيء إليها .
لم تخبر غرانت بالأمر بعد . . بغريزتها أدركت أنه
سيغضب . . . وربما يمنعها من زيارة روبرتو . وهــي تعرف أنها لن
تستطيع أن تمتنع عن ذلــك .
هذا ووضعها النفسي السيء أثر في نتاج عملها , وبدا أنها
فقدت الدافع للعمل . كانت مضطرة لإجبار نفسها على التقاط أقــلام
التلوين , إذ إن يديها بدتا لها متخشبتان مترددتان .
وصــل غرانت بعد ظهر ذلك اليوم وهي تروح وتجــيء متنهدة
أمام رسوم تصميماتها , فوقف قربها مقطباً :
ـ هل هناك شـــــيء مــا ؟
فنظرت إليه متوترة :
ــ ولم تســأل ؟
فضحك مشيراً بإصبعه إلى الصورة :
ـ يا فتاتي العزيزة ! لم أعهدك خرقاء في عملك . . أرى أنك
هنا أعدت الرسم فوق الرسم أكثر من مرة . . . ومـع ذلك فهو لا
يزال سيئاً . . أليس كذلك ؟
ولم يكن هناك جدوى من الإنكار , فهو يعرف عن فن التصميم
الشــيء الكثير أكثر مما يعرفه كبار الرسامين . فقالت له بعد تردد :
ـ أظن أنه قد حان الوقت لأقول لك شيئاً . أجلس يا غرانت .
فنظر إليها متوتراً مقطباً وسألها مازحاً :
ـ وهل ســأحتاج إلى ما يعيدني إلى الصحو إن أغمي علي .
فضحكت جيني وأخبرته القصة بشكــل سريع بكل صراحة ,
وخشونة وشـــاهدت وجهه يتصــلــب ويسود , وبدأت الشعـــلات
الحمراء تغشى عينيه :
ـ يا للجحيم . . . لا بد أنك فقـــدت عـقــلــك . . أنت تزورنه
يومياً منذ أسابيع دون إعلامــي بالأمـر ؟ أتكذبين علي ؟ تغشيني ؟ لا
أستطيع أن أصــدق أنك فعلت هذا يا جيني !
فقالت بـــأسى :
ـ لم أكن أتصور أن الأمر سيستمر طويلاً . لقد أخبروني أول
الأمر بأنه سيموت فلم استطع الرفض ! ثم قال الأخصائي النفسي إن
هو اكتشف أمر طلاقنا قد يصاب بصدمة . . فكيف يمكن أن لا ألبي
طلبهم وألعب الدور المطلوب منــي ؟
ـ أخبريني بالأمــر على الأقل , كنت استطعت التعامل معهم .
هذا إن كنت راغبة في تدخلي , ولكن يبدو أنك لست راغبة . أليس
كذلك جيني ؟ أظن أنك تودين الذهاب لرؤيته , رؤية ذلك الوغد
الإيطالي السافل ! لم تتمكني أبداً من التخلص من ذكراه . . أليس
كذلك ؟ ظننت لفترة أنك نسيته تماماً . . . ولكن لحظة أشـــار لك
عدت زاحفــة إليه كالبلهاء وتركته يستغلك كمـــا كان يفعل من قبل .
ـ ولكنه مريض للغاية !
فضحك بخشونة :
ـ كم هذا مقــنــع !
ـ غرانت . . إنه مريــض ! كــان على شفـــير الــمــوت ! لو أنك
شــاهدته في اليوم الأول . . كم كان شاحباً ومتلاشياً كالأموات .
بالكاد كـــان يصدر حركة أو صوتــاً .
والتوت شفتا غرانت بتكشيرة غضب :
ـ إذاً أصبحت ملمة بكـــل ظروفه وجميع احتياجاته , أليس
كذلك ؟ لقد أجبرك على الحضــور . . ألم يفعل ؟
ـ غرانت , كان علي الذهاب , اللياقة تقتضي ذلك !
وأمسك كتفيها بكلتا يديه وهزها بعنف , فتصلب وجهها وهـــي
تنظر إليه مذهولة وعيناها الخضراوان شاخصتان وصــاح بها :
ـ أنت أردت الذهاب ! اعترفـــي بذلك !
واشتد غضبها , منه . . . وأصبحت شرسة . وفقدت السيطرة
على تفكيرها , فافلت لسانها وصاحت به .
ـ حسن جداً . . هذا ما أردته . . أردت رؤية ثانية . . . لأنــي
أحبه !
وقطعت الكلمات بصمت متوتر , وأغمضت عينيها لفترة
قصيرة . ثم نظرت بحزن إلى غرانت :
ـ آسفة يا غرانت . ليس الأمر بيدي . . . لم أرد ذلك . .
ولكن هذا هو الواقع . . . أنا مجنونة به .
فقال غرانت بوضوح وبرود :
ـ أجل . . . أجل . . أعرف هذا . هذا ما عرفته دوماً . كان
واضحاً منذ البداية . . نظرة واحدة منه أوقعتك في غرامه . . وكنت
غبياً إذ ظننت أنك قد شفيت من حبه .
أخفضت جيني رأسها باستسلام , وقد انتابها الندم المرير . ثم
سـحــبــت خــــاتـم الخطوبة من أصابعها وأعطته إياه :
ـ أنا آسفــــة جداً لهذه النهاية بيننا .
تنفس غرانت بحدة , ناظراً إلى الخاتم وكأنه يراه لأول مرة . . .
ثم تنهد :
ـ اسمعـــي يا عزيزتــي . أنا آســف لعدم سيطرتــي على أعصابــي .
فهل تستمعين إلى بهدوء للحظات ؟
ـ بالطبع . فحـــــبي لروبرتو لن يؤثر مطلقــاً على تعلقــي بك . ولم
يكن يوماً ليؤثر . . لقد تعارفنا منذ زمن طويل . . .
فابتسم وشعرت أنها آلمته بهذا الكلام أكثر مما أرضته :
ـ لا تعيدي إلى الخاتم الآن . أبقيه في الوقت الحاضر . ولا
تخبري أحداً أن علاقتنا قد انتهت .
وبدا عليها الارتباك وعدم الفهــــم :
ـ ولمــاذا ؟
ـ لأجـــل حمايتك . فأنا لا أثق بعائلة باستينو , كمــا لم أثق بهم
من قبل . ولا أصدق ادعاء روبرتو بفــقدان ذاكرته . . . إنه خنزير
ذكــــي .
ـ أوه غرانت ! أنت لم تره حقـــاً !
فابتســـــم بقلق :
ـ أوه . . أنا لا أشك فــي أنه مريض بعد حادث تحطم سيارته . .
ولكن ليس هناك من طريقه لمعرفة هذا الادعــاء بفــقدان ذاكرته كمــا
هــي الحال مع عظم مكســور مثلاً . ربمــا هو يحتال على الجميع .
ـ ولمــاذا يفـــــعل ؟
فهز كتفيه :
ـ لقد نجح . . . ! واستعادك , ألم يفعـــل ؟
فاحمـــر وجههـــا :
ـ لو كان يريدنــــي لحاول سابقاً أنسيت أن زوجته قد ماتت منذ
سنتين . . . ولم يحـــاول التقرب منـــي بعدها مطلقاً . . . فلماذا انتظر
هذا الوقت كلــه ؟
ـ ومن يعرف لماذا بحق الشيطان ؟ إنه خبيث مــاكر . . . رجــل
أعمال له تكتيكات ناجحة . جيني . . أنت تقرأين الصحف وتعرفين
كم عدد النساء اللواتـــي شوهد معهن . . . علاقاته بالنساء قذرة . .
هل هو من نوع الرجل الذي ترغبين فيه ؟ رجل لا يمكنك أن تثقــي
به ؟
وأحست جيني بالغثيان , ووضعت يدها على معدتها ,
وارتجفت شفتاها . . وهي تقول بصوت هامس :
ـ لا . . ليس هذا ما أريده . . لا . . بالطبع لا .
ـ إذن . . لمــــاذا ؟
ونظــرت إليه عاجـــزة .
ـ فـــي هذه اللحظات , لأنه يحتاجني !
فضحــك . . وصاحت غاضبة :
ـ إنه بحاجة لــي وطالما عرفت هذا فأنا لن أخيب أمله . لقـــد
حاولت , وكتمت مشاعري , ولكنني . الآن لم أعد اقدر . أنا ضعيفة
غبية , ربما . لكن لا حيلة لي حيال هذا الأمــر .
ـ حسناً . . ولكن , ولأجــل حمايتك استمري فـــي ارتداء
خاتمي . . وانتظري . . لا تلتزمــي مع هذه العائلة ثانية قبل أن تعرفي
حقيقة الموقف , ولا تعرضي نفسك لأي خداع ثانية .
ـ أنت رجــل رائع يا غرانت , وكنت أتمنى من الله لــــو أنني
أحببتك كمـــا أحببتنــــي .
فضحــك عميقـــاً :
ـ وكذلك أنا يا عزيزتي . فأنت جميلة , يا لأســف أن باستينو
هذا لم يقتل فـــي تلك الحادثة .
ـ غرانت . . . لا تقـــل مثل هذا ولو على سبيل المزاح .
ـ ولكني لا أمزح . لو لم تلتقي به لكنا تزوجنا منذ زمن
بعيد . . . وأنا واثق أنه سيرفسك على أسنانك مرة أخرى يومــاً ما .
وســأكون يومئذ بانتظـــارك .
واستدار ليغادر المنزل دون كلمة وداع . . . فوقفت مكانهــا . .
ترتجــف ضائعة بين رفضها لقوله وتصديقها له .
كانت الرباطات قــد أزيلت عن رأس روبرتو يوم زارته .
ضحكت وهي تنظر إلى خصل شعره الأســـود المبعثرة فوق جبينه .
ـ تبدو كــالطفــل . .
فرد بمرارة .
ـ بل أبدو كــــالأبله .
وأخــذ يتحدث عن مشاريعه , ممسكاً أصابعها في يده , يـــعــبث
بها ملاحظاً كيف تختفي في راحة يده الكبيرة .
ـ فكــــرت أن نذهب إلى ايطاليا .
واستوت فــي جلستها لتتحسس جسدها الذي تجمد من هول
المفاجـــأة .
ـ ايطاليا ؟
ـ نيويورك باردة في الشتاء , ولقد اشتقت إلى أجواء بلادي . .
يمكن إعادة فتح الفيلا وتهويتها في مدة قصيرة . . ويمكن أن نطير
إلى هناك فور مغادرتي المستشفى .
كــان قلبها يضرب كطبول الغاب , شفتاها جافتان من شدة
التوتر . . يجب أن يعــــرف . . . لن تستطيع السفر معه . . هذا أمر لا
يمكن التردد فيه .
وســـألها متعجباً :
ـ لمــاذا تصمتين ؟
ـ كنت أفكــر . السفــــر قد يكون متعباً لك . وسيصيبك بالإرهــــاق .
ـ هــــراء !
ونظــــر إليها بوجه ضاحك وابتسامة ســاخرة تذكرها جيداً ,
جعلتها تمسك أنفاسها وترتعش ثم همـــس :
ـ أعتقد أنك تشعرين بالخجل . . ربما لأن فراقنــــا قد طـــال ؟
فكــــرت بسرعة . . مــاذا يعني ؟ وأكمـــل برقة :
ـ هل نسيت وأنا مريض أنك امرأة متزوجــة , وأنك زوجــــتي ؟
ســأغير هذا الوضع قريباً يا حــــبي . . . وســأكون مسروراً بأن أذكــرك
بأنك ملكـــــي .
ودفعها الذعــر لمحاولــة جذب يدها من يده , ولكنه شد قبضته
على أصابعها , موجهاً نظرة حادة إلى وجههــا المضطرب .
ـ كنت أظن أن هذا التمنع اللذيذ قد ولى زمنه . . . ولكنني
أرى العكــــس .
.
اقترب منها , رفع راحة يدهــا وقبلها , ثم أحاطها بذراعه ملامســاً
بشرتها الزهرية , وأخذ يقبل باطن كفيها مرات ومرات .
أحست بقلبها يخفق خفقاً متلاحقاً ثم ضمها إليه بقوة فشعرت
أنه سيحطم عظــام صدرها , أبعدته عنها ونظرت إليه . . تكرهه . .
وتحبه فــي آن . وســـارعت إلى إبعاد نظراتها عنه عندما أحست بثقل
نظراته عليهـــا .
ـ ربما سنتمكن من السفر إلى ايطاليا فيما بعد , ولكــن ليس
الآن روبرتو .
سحبت يدهـــا من يده وتابعت :
ـ يجب أن اذهــــب الآن .
وســارعــت إلى الباب وعيـنــاه الغاضبتان تلاحقانها . وصـــاح
بحــدة :
ـ عــــودي إلى هنا جيني !
ولكنها تابعت جريها إلى الخــارج , متظـــاهرة بعدم سمـــاعه , وكـــل
جسدهــا ينتفض .
اتجهت من المستشفى إلى منزل باستينو مباشــرة لمقابلة إيفا .
فاستقبلها الخادم القديم الذي تعرفه جيداً . . ولم يكن في وجهه مــا
يدل على أنه من البشر . سمعته يقول بعد أن أدخلهــا إلى غرفة
الجلوس بصوت خال من أي تعبير :
ـ سيدتي . .. الآنســـــــــة نيوهام هنا !
وتقدمت إيفا لتقبلهــا .
ـ حبيبتي . . كم رائع أن أراك فــي هذا المنزل ثانية !
ولامست خدها بخد جيني التي ســارعت للتأوه .
ـ إيفا . . أتعلمين أن الطبيب سيسمـــح له بمغادرة المستشفى
قريباً ؟
ـ أجـــل . . . ما رأيك لو تتناولــيــن القهوة معـــي ؟ اجلســـي يا
حبيبتي .
ونظرت إليها جيني يائســـة :
ـ أصغــــي إلي إيفا . . روبرتو يريد السفر إلى ايطاليا !
ـ فكــرة رائعة ! أنا واثقة أنه سيتعافى بســرعة أكــبر هناك .
وبدا واضحــاُ أن إيفا لم تفهم معنى قولهـــا .
ـ عندما يصــل إلى المنزل , يجب أن تخبروه يا إيفا .
ـ نخبره مــاذا ؟
وجلست إيفا على الكرســـي بقربها ونظرت إليها ببراءة .
ـ أنت تعرفين ما أعنــي . . ! يجب إخباره بــأمـــر طلاقنا !
حينها أمسكت إيفا بيدها , ولامست خاتم الزواج الذي نسيت
أن تخلعــه عندما غادرت المستشفى :
ـ ولمــاذا ؟
فــأجفلت جيني :
ـ أنت تعرفين جيداً لمــاذا لا أستطيع الذهاب معه ! لأنــي لست
زوجته وعاجــلاً أم آجــلاً سيعي ذلك .
فقالت إيفا بنعومــة :
ـ طبعاً عاجلاً أم آجـــلاً . . . ولكن ليــس الآن يا جيني . . . ليس
بعد .
شهقت جيني . . . وحدقت بإيفا .
ـ ألا ترين أن هذا الوضع مستحيل بالنسبة لــي ؟ لـــم أعــــد قادرة
على الاحتمال . . وأنا أدعــــي كل يوم وأذهب إليه . . وأراه . .
وأكذب عليه !
فردت إيفا بهـــدوء :
ـ ولكنك بذلك تجعلينه سعيداً , يا عزيزتي سيكون الأمـــر أفضل
بكثير لو تركناه يستعيد ذاكرته بنفسه . . ألا تعتقدين هذا ؟ وبما أنه
بدأ يستعيد عافيته تدريجياً فلن يطول الأمر حتى يستعيد ذاكرته .
ـ ولكنـــني لا أستطيع السفر معه إلى ايطاليا ! لا أستطيع , إيفا !
أنا لست زوجته . . نحن لسنا متزوجين ! كيف يمكنــني السفر إلى
إيطاليا والعيش معه تحت سقف واحد ؟
فابتسمت بخبث :
ـ لا بأس يا عزيزتي . . وأي ضرر فــي هذا ؟ أتظنين أنه بكــــامل
عافيته ليطالبك بحــقــه الزوجـــي ؟
فــاحمر وجه جيني وهمست :
ـ ولو فعــــل ؟
ضحكت إيفا :
ـ لا أظن . . أنسيت كم هو مريض ؟ مثل هذه الأفكـــار لن تخطر
بباله يا عزيزتي قبل أسابيع طويلة ,وحتى ذلك الوقت لا بد أن
يكــون قد استعاد ذاكرته , كمـــا إنك بحاجة لإجــازة . . لقد مررت
بفترة عصبية . . وتبدين متعبة يا عزيزتــي !
ـ لا أقـــدر .
ـ وهل سيعترض خطيبك ؟
فوقفت غاضبة , فـــي نفس اللحظة التي دخــــل فيها الخادم . . .
فقالت :
القهوة . . عودي للجلوس يا عزيزتــي .
وبينما هما ترتشفان القهوة , قالت جيني لإيفا :
ـ يبدو أنك نسيت كم كان لدي من الأسباب لأكــرهه ! فزواجنا
كان محكوم عليه بالفشل . . وكـــان فراقنا محتماً .
فتغير وجــه إيفا :
ـ لا أريد مناقشة ما حدث . فــالزواج عــلاقة شخصية بحتة !
فضحكت جيني بسخرية , ونظــــرت إليها واضعة يديها على
خصرهـــا ووقفت قائلة :
ـ ولكن الطلاق ليس أمـــراً شخصياً إطــلاقاً . . أليس كذلك ؟
وأنت تعرفين تمــاماً لماذا تطلقنــــا .
ـ جيني أرجـــوك !
كانت جيني غاضبة بشدة أحســـت معها بعدم قدرتها على
التراجع . . . وأصبح وجهها شاحباً مائلاً للبياض وقالت بمرارة :
ـ لقد حدث ذلك فـــي هذا المنزل . . أتذكرين ؟ لقد دخـــلــــت
غرفــــتي ووجدته على فـــراشــــي مع عشيقته .
وبدت الصدمة على إيفا . . وشحب وجههـــا . .
ـ أنـــا . . أنــا آســفــــة . .
ـ آســـفة ؟
قالتها بسخرية وكــأنها تقصد الإهانة وأكملــــت :
ـ أيمكن أن تتصوري كيف كــان الأمــر بالنسبة لــي ؟
في نبرة صوتها , ألم غاضب , وجهها مشدود متشنج , مع
محــاولاتها الجاهدة للسيطرة على البؤس الذي يشتعل في داخلهــا .
وتمتمت إيفا :
ـ أوه . . يا عزيزتي .
ـ أيمكنك أن تنســــي ما حدث لو كنت أنتِ مكــانــــي ؟
أحست إيفا أن السؤال كــالخنجر المصوب إليها , فــأجابت
بصوت أجـــش :
ـ أنت لم تسمحــي لــ روبرتو أن يشرح لك حقيقة الوضع .
ـ يشرح لــي ؟ يشرح ماذا بحق الله ؟ مــاذا يمكنه أن يشرح إيفا ؟
أيشرح لــي لماذا أخذ جيسكا إلى فراشـــي ؟ لقد رأيتهما معاً . .
أتذكرين ؟ تلك الصورة لم تفارق مخيلـــتي قط منذ ذلك الوقت ,
عشت بعدهــا في جحيم . صدقيــني . ليس هناك عذر يبرر مــا
فعـــله .
وردت إيفا بصــوت مرتجف بائس وهــي تنظــر إليها بحزن :
ـ الأمــــور ليست دائماً كمــا تبدو .
فضحكــت جيني بمــرارة :
ـ ما حصــل كــان بسيطــاً إيفا . . واضــح كــوضوح الشمس .
فبــدا الألم فــي عيني إيفا :
ـ لا تتحدثي هكذا ! أكــره سمــاع ما تقولين .
ـ ولست أحب أن أقولـــه . ولكنــني لن أصغـــي إليك وأنت
تدافعين عن الشيطان . . عن روبرتو . . . لا شـــيء تفعلينه يمكن أن
يزيل أندرو من الصورة , ولا أنت تريدين هذا . . أعــرف أنك تحبين
الصــــبي . . إذ إنه ولد صغير طيب , ولكــن كل مرة أسمع اسمه فيها ,
أتذكــر واقع أن روبرتو أصبح أباه وهـــو في فراشـــي أنا مع أمه تلك
الليلة .
وســارت بخــــطى ثابتة نحو الباب وخرجت . . . تاركـــة إيفا
العجــوز تحدق بهـــا بعينين دامعتين
* * *

   الدوامة - شارلوت لامب        روايات احلام  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن