الفصل الأول | تحت ظلال الزيزفون 🌿 |

3.3K 86 22
                                    


(١ ) من ماجدولين إلى سوزان


سواء لَدي أَقَرَأْتِ كتابي هذا أم مزقته، خِلْوٌ من كل شيء يهمك العلم به أو النظر إليه.
كل ما يمكنني أن أُطرفك به من الأخبار أن أقول لك: إن أشجار الربيع قد بدأت تبتسم عن أزهارها، وإن النسيم العليل يجمع إليَّ في غرفتي في هذه الساعة التي أكتب إليك فيها شذى أول زهرة من زهرات البنفسج وأول عود من أعواد الزنبق.
ويمكنني أن أخبرك أيضًا - وإن كنت لا أعرف لمثل هذه الأخبار معنى - أن الغرفة التي كانت خالية في الدور الأعلى من منزلنا قد سكنها اليوم فتى اسمه «استيفن»، غريب الأطوار في وحشته ونفوره وانقباضه عن الناس، حتى يكاد يظن الناظر إليه أنه بائسٌ أو منكوب، فهو ينزل في صبيحة كل يوم إلى الحديقة وبيده كتاب واحد لا يغيره، فإذا جلس للقراءة فيه علق نظره بأول سطر يمر به ثم لا ينتقل عنه بعد ذلك، فهو في الحقيقة مطرق إلى الأرض من حيث يظن الرائي أنه يقرأ في كتاب، فإذا رآني مارة أمامه رفع رأسه إليَّ وحياني تحيةً وجيزة، ثم انتقل من مكانه وانساب بين الأشجار، أو صعد إلى غرفته؛ لذلك لم تصل بيني وبينه معرفة حتى اليوم، وربما لا يقع شيء من ذلك فيما بعد؛ لأني لا ألتمس السبيل إلى التعرف به ولا أُحب أنه يلتمسه، فإن كنت لا بد سائلة عما يتساءل عنه النساء في مثل هذا الموقف فأقول لك: إن الفتى ليس بجميلٍ ولا جذاب، بل إن في منظره من الخشونة والجمود ما ينفر نظر الناظر إليه، وأحسن ما فيه أني سمعته ليلةً - وكانت نافذة غرفتي مفتوحةً - يغني غناءً شجيًّا مؤثرًا، وإن كان لا يجري فيه على قاعدة من قواعد النغم، فهو يطرب البؤساء والمحزونين، ولا يعجب الموسيقيين المتفننين، ولقد تمكن أبي من مجالسته هنيهةً فحدثني عنه أنه من المتعلمين الأذكياء، وبعد: فأحسب أني أمللتك يا سوزان بحديث يتعلق أكثره بإنسان لا شأن لي ولا لك معه، فلا تعتبي عليَّ، فهذا كل ما تستطيع أن تملأ به صفحات كتابها فتاةٌ تعيش في قريتها الصغيرة عيشًا متشابه الصور والألوان، لا فرق بين ليله ونهاره، وصبحه ومسائه، لا تطلع الشمس فيه على مرأًى جديدٍ، ولا تغرب عن منظر غريب.

(٢) من ماجدولين إلى سوزان

الجو رائقٌ، والسماء مصحيةٌ، وقرص الشمس يلتهب التهابًا، والأرض تهتز فتنبت نباتًا حسنًا، والأشجار تنتفض عن أوراقها اللامعة الخضراء، والهواء الفاتر يترقرق فينبعث إلى الأجسام فيترك فيها أثرًا هادئًا لذيذًا، وكل ذلك لا قيمة له عندي، ولا أثر له في نفسي، فإني أشعر أن الحياة مظلمة قاتمة، وأن هذا الفضاء على سعته وانفراج ما بين أطرافه أضيق في عيني من كفة الحابل، وأن منظر العالم قد استحال إلى شيءٍ غريب لا أعرفه ولا عهد لي بمثله، فأظل أنتقل من مكان إلى مكان، وأفر من الحديقة إلى المنزل ومن المنزل إلى الحديقة، كأنني أفتش عن شيءٍ، وما أفتش إلا عن نفسي التي فقدتها ولا أزال أنشدها، فإذا نال مني التعب أويت إلى أشجار الزيزفون في الحديقة لأستريح في ظلالها قليلًا، فلا يكاد يعلق نظري بأول زهرة يروقني منظرها من بين أزهارها حتى أشعر كأني أنتقل من هذا العالم شيئًا فشيئًا إلى عالم جميل من عوالم الخيال، فأتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر المحلق في غمار السحب وتمر بي على ذلك ساعات طوال لا أعود من بعدها إلى نفسي إلا إذا شعرت بسقوط الكتاب من يدي، فإذا استفقت وجدتني لا أزال في مكاني، ولا يزال نظري عالقًا بتلك الزهرة الجميلة التي وقفت عليها.
يقولون إن فصل الربيع فصل الحب، وإن العواطف تضطرم فيه اضطرامًا فتأنس النفوس بالنفوس، وتقترب القلوب من القلوب، وتمتلئ الحدائق والبساتين بجماعات الطير صادحةً فوق زواهر الأغصان وجماعات الناس، سانحة بين صفوف الأشجار، أما أنا فلا أصدق من كل هذا شيئًا، فإن أجمل الساعات عندي تلك الساعة التي أخلو فيها بنفسي فأناجيها بهمومي وأحزاني، وأذرف من العبرات ما أبرد به تلك الغلة التي تعتلج في صدري.
وأعجب ما أعجب له من أمر نفسي أنني أبكي على غير شيء، وأحزن لغير سبب، وأجد بين جنبي من الهموم والأشجان ما لا أعرف سبيله ولا مأتاه، حتى يُخيل إليَّ أن عارضًا من عوارض الجنون قد خالط عقلي، فيشتد خوفي واضطرابي.
إن الذين يعرفون أسباب آلامهم وأحزانهم غير أشقياء؛ لأنهم يعيشون بالأمل ويحيون بالرجاء، أما أنا فشقيةٌ؛ لأني لا أعرف لي دواءً فأعالجه، ولا يوم شفاء فأرجوه.
كل أسباب العيش حاضرة لدي، وأبي لا يعرف له سعادة في الحياة غير سعادتي، ولا هناء غير هنائي، ولا يعجبه منظرٌ من مناظر الجمال في العالم سوى أن يراني باسمة، ويرى أزهار حديقته ضاحكة، بل ربما أغفل أمر حديقته أحيانًا حتى تذبل أوراقها وتموت زهراتها في سبيل قضاء مرافقي وحاجاتي، فأنا إن شكوت فإنما أشكو بطرًا وأشرًا وكفرانًا بأنعم الله التي يسبغها عليَّ ويسديها إليَّ، فغفرانك اللهم ورحمتك، فإني ما اعترفت بجميلك، ولا أحسنت القيام بشكر أياديك.
إني لأذكر يا سوزان تلك الأيام التي قضيناها معًا، وتلك السعادة التي كنا نهصر أغصانها، ونجني ثمارها، ونطير في سمائها بأجنحةٍ من الآمال والأحلام؛ فأندبها وأبكي عليها، وأحن إليها حنين الليل إلى مطلع الفجر، والجدب إلى ديمة القطر.

. . . . . . . .

رواية منقولة 😄 من أحد كتاب الفرنسيين العظماء ❤

الذي قام بتعريبها : | لأديب مصطفى لطفي المنفلوطي | 🌹

إذا عجبتكم الرواية لا تنسوا تضيفوها إلى مكتبتكم ☺

صدقا الرواية كتير حلوة 😜✌

ماجدولين | تحت ظلال الزيزفون | حيث تعيش القصص. اكتشف الآن