ترتيب السلسلة
الجزء الأول
تراتيل الماضي
..
الجزء الثاني
وصرخ قلبي بالهوى
..
الجزء الثالث
قلب بين شقيّ رحى
..
الجزء الرابع (أول نوفيلات الأولاد)
ميّال والمرتجف قلبي
..
الجزء الخامس ( ثاني نوفيلات الأولاد)
فاستجاب قلبي
..
الجزء السادس (ثالث نوفيلات الأولاد)
وإني أهديك قلبي
***
في قلب بين شقي رحى كانا صغار..
صغار يلتفون ويلهون في بيت العمايرية.. حيث هو اليوم الشهري للجمع العائلي والذي حرص الجميع على استمرارية تفعيله من أجل الأطفال..
والصغار أول المتجولين بالمكان ما عدا يونس الصغير المرابط جوار عمه ولكن ليس من أجل عمه بل من أجل..
( توبة جابر العمايري )
كائن الفراولة كما يحب يونس الصغير تسميتها.. والسبب هو..
" شهية مثل الفراولة التي تحبها "
والولد وريث عمه في العبث..
والعم يدعم العبث إلى ما لا نهاية..
حيث
(عاش يا ابني والله)
تتبعها تصفيق حار..
****
في ميّال والمرتجف قلبي كان رجلاً..
رجل له كيانه وحياته مغترباً ومستقلاً بذاته.. يسافر بالشهور ويعود لأيام من أجل رؤية والديه، أخته وأصدقائه.. فقَد أثر تعلقه بفراولة رآها صغيرة وأخذته السنوات.. لم يكن يراها ولم تكن في باله فقد أسقطها من عقله مع ما أسقطه وما ربطه بالوطن حتى حضر للبلاد من أجل زفاف أخته
(توق تمّام النويري)..
وهناك؛
كان يقف جوار عمه يتحدثان في أشياء تخص العمل تارة.. وأخرى فيما تخص زيجة أخته التي تأخرت الكثير من الوقت..
" لقد هرمنا "
قالها يونس الصغير مشاكساً حين وقعت عيناه على أخته بحمرة خديها الفضاحة لكل ما يعتريها من خجل ولا يغفل بالطبع عن لمعة عينيها والراحة التي ترسم ملامحها وكأنها أصبحت أفضل بما نالت..
" العقبى لك يا يونس چونيور "
قالها عمه يربت فوق كتف ابن أخيه وأقرب أولاد العائلة لقلبه..
" ليس قبل أن نفرح بك يا عمي "
التفت يونس حوله بريبة مصطنعة ثم مال يهمس لابن أخيه..
" إن سمعتك چود ستُسمم لنا عشاءنا "
" اوووه العم يونس يخاف زوجته "
قالها يونس الصغير والكبير عدل ياقة قميصه بغرور العارف ببواطن الأمور ثم قال..
" الزوج الصالح هو من يخاف زوجته لعلمك "
ضحك كلاهما عالياً وحين هدأت ضحكاتهما كان الصغير يخفت ضحكاته متوازية برؤيته لفتاة تقف على بُعد مناسب منهما تنظر إليهما.. أو ليونس الصغير تحديداً وحين تقابلت الأعين كان التوتر سيد الموقف..
أبعدت نظراتها ثم ابتعدت تنشغل في أي شيء مما جعل يونس يميل على عمه يسأله دون أن يحيد بنظراته عن صاحبة الهروب اللذيذ..
" من هذه يا عمي "
وسؤاله مُبرر حيث العرس للأهل والأقارب إذاً فهي من الأقارب أو الأهل..
التفت يونس حيث ينظر ابن أخيه مما جلب نظرة عابثة من الماضي.. يميل تجاهه هو الآخر يسأله بخبث..
" ألا تتذكرها "
يضيق يونس ما بين حاجبيه بمحاولة تذكّر فاشلة مما جعل عمه يميل أكثر.. يهمس جوار أذنه بلؤم..
" فراولة.. ألا تتذكرها "
والاسم ليس بغريب.. وهي أيضاً وكأنه رآها قبلاً..
نظر لعمه يتدارك مشهد قفز من الماضي يشبه مثيله من الحاضر يعايشانه بالفعل..
" توبة!! "
ضحك يونس مقهقهاً.. أبعد نظراته عن ابن أخيه يسلطها على محور حديثهما متنغماً بكلمات أغنية تجاري الموقف وإغاظة للواقف جواره..
" توبة إن كنت أحبك تاني توبة..
بس قابلني مرة وتبقى دي آخر نوبة وبعدها توبة "
بعدم رضا مصطنع ترك عمه واقفاً يشيعه بنظرات مدركة ومتفهمة ولكنه لم يمنع نفسه من المشاكسة..
" إلى أين يا عندليب "
لوح له يونس بكفه دون أن يلتفت.. وحروفه تخرج واعدة..
" سأحدد إن كانت آخر نوبة أم لا "
والولد وريث عمه في العبث.. والعشق..
وخلفها وقف يغازلها..
" كيف حالك يا فراولة "
والمقصودة لم تلتفت للحظات.. تحاول تنظيم أنفاسها ولكن هباءً..
فعشق الصبا عاد متألقاً بحلة الرجولة..
التفتت أخيراً ليكون من نصيبه الوقوع الحقيقي..
حيث العين قتّالة.. والنظرة سهام..
" يونس "
اسمه همساً ذابحاً ليدرك أنها من المُحال أن تكون (آخر نوبة)..
****
أمًا في فاستجاب قلبي فكان الوصول.. كانت الانطلاقة الحقيقية لقصة عشق لها أن تُسطّر في كتاب حكايات الغرام..
وبداية الحكاية كان من عندها.. حيث هي العاشقة المختبئة خلف شاشة زرقاء تتابعه من خلفها..
ركزت مع مهمتها التي كانت من أجل أخيها العاشق بجنون بابنة عمهما (مَليكة جاسم العمايري)..
( أريد رؤية مليكة ضروري)
رمى أمره دون العبء بما قد تتعرض له في الداخل..
تدور كالنحلة يميناً ويساراً وعيناها لا تفارقان مليكة في جلستها المستكينة في ركن منزوي.. تراقب الوضع وكيفية التصرف أو التخطيط من أجل تنفيذ طلب أخيها العاشق..
ذلك الأحمق الذي انتفض أخيراً من أجل عشقه.. لم تكن تتخيل حين علمت في سنوات مراهقتها الأولى بقصة أخيها ومليكة العمايري أن تنحرف حكايتهما بهذا الشكل..
حكاية كانت الأمل لتشبثها بحكايتها الطفولية الخاصة.. ذلك العابث المهاجر الذي امتلك قلبها في وقت مُبكر من حياتها وها هو يضعه كل أمله..
لم تكن تعلم في هذه اللحظة أن العابث المهاجر يتابعها بعينين شغوفتين من نافذة منخفضة تطل جزئيّاً على الساحة.. ساحة الرجال..
النافذة مخفية لا تجرح جلوس النساء ولكن تجرح وقفتها هي المتوترة وكأنها تدبر لكارثة.. وهذا ما قرر معرفته بالفعل بل واكتشافه بنفسه..
وعندها كانت تتحرك بغير هدى حتى اهتدت لفكرة.. أخرجت هاتفها تبعث رسالة ما لأخيها الذي شرع في تنفيذها دون سؤال أو مجادلة..
تحركت في خطواتها باتجاه المطبخ تدور بعينيها هنا وهناك حتى استقرت على غرض ما يدعم خطتها..
" هل تريدين شيء يا ابنتي "
سألتها إحدى العاملات في مطبخ العمايرية التفتت للمرأة كبيرة السن تضحك لها بخفها بعد أن أخفت ما بيدها خلف ظهرها..
" شكراً يا خالة.. كنت أريد خالتي دلال "
تشير المرأة للخارج بيدها مع قولها..
" السِت دلال بالخارج ستجدينها في مقتبل الصالة تُشرف على الصواني الخارجة للساحة "
تفاصيل لا تهمها في شيء كل ما يهمها حقاً هو معرفة انشغال الخالة دلال ولو لدقائق معدودة..
شكرتها توبة وهربت من أمامها تلحق وقتها قبل أن ينفذ..
تتحرك بخفة غير واعية لمن دخل يراقبها عن كثب دون أن يفصح عن وجوده.. يراها تحمل بين يديها وعاء وتعود للجالسة تتصنع البحث عن شيء لتعطي انطباع يساعدها في كذبتها..
" مليكة.. الخالة دلال طلبت مني احضار المزيد من السكر لعمل ضيافة الرجال فهلا تدليني عن المخزن "
رفعت مليكة نظراتها لمحدثتها التي هي جزءً لا يتجزأ من آخر لعلمها بقربهما.. كم كانت تحسدها قديما لعيشها معه في مكان واحد.. لانسيابية مكالمتها له في أي زمان ومكان.. كانت تحسدها حقها حين تجتمع العائلة بشكل نادر الحدوث فتراها تلتصق به دون قدرة منها هي.. مليكة.. على الاقتراب..
" توبة "
خرجت منها عميقة مرتجفة وكأنها لا تنطق اسمها هي بل تنطق باسم آخر..
همستها التي تُذكرها بجزء ماض لا ترغب بتذكره الآن وهي في وضعها هذا.. استقامت من مكانها تشير لها بأن تتبعها..
" تعالي معي "
كانت تتبعها بخطوات منتصرة.. خطوات تكاد تقفز فرحاً لتحقيقها قرباً ينشده أخيها.. ذلك الذي يتلظى بانتظاره في الداخل..
فتحت مليكة الباب وخطت خطوة للداخل تسمح لتوبة بالمرور ولكن..
توبة لم تمر..
والباب لم يعد مفتوحاً..
الباب أُغلق دون أن تستطيع تفسير ما يحدث..
وهناك..
خلفها..
خلفها تماماً أنفاساً ثائرة..
التفتت ليهالها ما ترى.. أمامها.. لا يفصلها عنه إلا قليل.. سبب شقائها..
" فارس "
لم تعي أنها نطقت اسمه إلا بعدما وصلها رده المحترق والمتوله فيها ..
" عين فارس وقلبه "
****
أما بالخارج فكانت واقفة مكانها تنظر للباب نظرة حالمية.. نظرة كانت كفيلة لمن يراقبها ليدرك أي صورة يرسمها عقلها في هذه اللحظة..
تحركت للتنحي بعيداً دون بُعد حقيقي لتظل في نفس محيط الغرفة التي تحتوي العاشقيّن لتخضعهما تحت مراقبتها تحسباً لأي قادم فتلهيه.. لم تكن تعلم أنه سيتم إلهاءها هي شخصياً.. شعرت بمن يجذبها فجأة دون قدرة على الالتفات وصرختها تهم بفضح الأمر ولكنها خنقتها داخلها حين لفها مَن جذبها ليحشرها في جانب مخفي لا يراه متطفل..
وسؤاله الخافت يداعب أذنيها بعبث حروف ممطوطة يخبرها بها أنه عالماً بمخططها..
" ماذا تفعلين "
يشير برأسه للخلف متابعاً..
" هل توفقين رأسين في الحلال "
" يونس "
فقط اسمه كان ردها على أسئلته.. اسمه كما سمعه آخر مرة..
داعبها بنظراته دون أن يقترب حقيقة.. مُفصحاً عن خاطره بمشاكسة مقصودة..
" ممم منذ متى لم أسمع اسمي بكل هذه اللهفة "
والإشارة من حروفه أعلمتها أن يقصد آخر مرة رأته فيها.. بينما تصنّع هو التفكير مع كلماته وحركة عينيه اللتان تطوفان حول ملامحها..
" ممم آخر مرة كانت ااا "
" في زفاف أختك "
عاجلته بها ليضحك بخفة منتصرة.. كان يراهن نفسه أنها ستنطق بعد استفزازه لها.. خفتت ضحكاته إلا من ابتسامة سلبت عقلها..
" ذاكرتك قوية "
يرفع سبابته رغبة في لمس جانب وجهها ولكن يوقفه بعيداً بعد أن رأى نظرة عينيها المذعورة وتراجع وجهها عن مرمى إصبعه.. تتململ في وقفتها تحاول الابتعاد.. الهروب.. الاختباء عن نظراته المتفحصة ونظراتها هي الملهوفة..
لهفة أصابت عقلها بالخبال وهي تحاول العثور عن مخرج ولكن العطب تملّك من عقلها حقاً فجعلها تهتف دون وعي ودون سيطرة على دقات قلبها المجنونة..
" أين أنت من وقتها "
يرتفع حاجباه مستمتعاً باندفاعها ووعيها المتأخر.. متأخر للغاية حيث اتسعت عيناها وشحبت ملامحها وهو لم يرحمها بل زاد هجومه..
" أين أنا؟!.. هل كنت تنتظريني "
بأطراف أصابعها دفعته أوقفت اقترابه مما جعله يتأوه متصنع الضعف الـ.. لذيذ؟! يلامس مكان أصابعها فوق طرف كتفه الأيسر..
يتشرب هجومها الكلامي دون شبع..
" ولِم سأنتظرك.. أخبارك تملأ حسابك على الفيسبوك لو أردت معرفة شيء سأعرفه بسهولة "
اللهفة لم تصيب عقلها بالخبال فقط بل بالعطب.. حروفها تسربلت من بين شفتيها اللذيذتين والذي تجاهل لذتهما لثواني مستغلاً وجودها ليتشرب فرصة تواجدها قبل أن تهرب.. وقبل أن يبتعد لحياته..
" وتتابعين حسابي "
تكتف ساعديها بدفاعية.. ترفع ذقنها بشموخ متعالي كحروفها رغم كذب ادّعائها ..
" لا تعطي نفسك أكبر من حجمها أنا فقط أحب السفر وأتابع محتواك بسبب سفرياتك كطيار "
يتحرك ليقف أمامها يحتجز نظراتها بعبث لا يغيب عنه..
" تحبين سفرياتي فقط "
تتوتر تحت نظراته الحيّة.. تتنهد بحالمية لم تستطع السيطرة عليها وهي تقول..
" وعروض الأزياء "
حيث عمله كعارض أزياء لماركات عالمية.. وهنا جلجلت ضحكاته في أذنيها كما قلبها بالضبط مما استرعى حمرة قانية لوجنتيها زادتها لذة جاورت لذة شفتيها مما أعطاها مظهر شهيّ تحت نظراته..
" واضح أنكِ تحفظين تفاصيلي حقاً "
نبراته خافتة.. مدركة لشيء أبعد بكثير من المشاكسة.. قبل سنة ظنّ أنه سينسى رؤيتها.. لهفة نطقها لأسمه تلك التي لن ينساها مستقبلاً أو ظنّ أنه نساها قديماً حتى تكررت قبل قليل.. لهفة لمست جزء عميق داخله لم يلمسه سواها..
كما لمست داخلها خفوت نبرته شيئاً تظن أنها لن تنساه بعد أن يبتعد كعادته.. وحين خطر بُعد كانت تتجهم ملامحها بضيق لا يليق بوقفتهما..
تفك ساعديها.. وتتهرب بنظراتها كما كيانها كله..
" لا تطري نفسك كثيراً.. أنت فقط وافقت اهتماماتي "
وقررت الهروب بالفعل.. تحركت ولكن وقوفه أمامها أعاق تحركها..
نظراته سلسال من اهتمام..
نبراته كغزل لم يستطع قلبها تجاهله..
وسؤاله يطرق باب حب أغلقت عليه منذ زمن طويل..
وسؤاله لم يكن استفساراً قدر كونه لجوءً..
" كيف أصل إليكِ "
ثارت الأنفاس والدقات..
غاب العقل للحظات.. والقلب أعلن بوق ثورته.. ولكن..
انتهت لحظات الغياب ليعود العقل ليقظته.. مع لمحة من دلال شهي جاور مشاكسة حروفها..
" جِد الطريقة بنفسك "
***
الفصــل الأول
الهروب أفضل الحلول..
دوماً نختار الأسهل، متمسكين بفرصة الهروب كأمان رغم يقيننا أنه أمان زائف..
***
يقف متململاً ينتظر انتهاء الاتصال الذي يجريه والده دون أن تغيب عيناه عنه.. يدقق النظر فيه وكأنه يخترقه وهذا تحديداً ما يجعله متململاً..
يقينه أن والده يقرأه بسهولة.. دون مجهود يُذكر..
" حسناً سنتحدث لاحقاً "
سمعها من أبيه ليعتدل في وقفته ينتظر المحادثة المعتادة بينهما.. ذلك الرجل القوي يكون والده الذي لا يكل ولا يمل من محاولة فرض سيطرته عليه وعلى حياته..
يحاول بكل الطرق تقييده ولكنه اعتاد نظام حياة معينة.. حياة بعيدة عن ضغط الوضع هنا.. ضغط رآه منذ صغره ولكنه هرب منه منذ سنوات طويلة مضت دون السماح لأحد بتغيير نظام هروبه حتى وإن كان هذا الأحد هو والده..
" إذاً أنت مصمم على متابعة حياتك بهذا التشتت "
قالها تمام النويري بجمود يحتمه الموقف فالضعف أمام ابنه ليس في صالحه.. لا يعلم ولا يدرك سبب هروبه من تحت جناحه وكأنه يفعل كل شيء حتى يخترق شرنقته الحامية لعائلته..
ينظر له يونس بنظرة لائمة ولكنه لا يستطيع فعل أكثر فرغم كل جهوده للهروب فهو على يقين بحب والده له.. ولكنه حب خانق منذ البداية.. منذ صغرهم.. منذ بدأ حياته كفتى.. كشاب وكرجل يتجاوز طوله طول والده ورغم هذا لا يتورع والده في خنقه بحمايته..
" أين التشتت يا أبي.. أنا أفعل ما أحبه "
" منطق أناني "
ألقاها تمام بدوره ولكنه لم يحسب حساب جمود ابنه قبل أن يلقي رده ويرد الصاع لوالده قصداً صاعيّن..
" كلنا أنانيون يا أبي وأنت خير من يدرك "
شحب وجه تمام في وقفته المتابعة لابنه.. صغيره يونس الذي يجابهه نداً بند.. حقاً لا يعلم تمام ما الذي سقط منه أثناء رحلته مع أولاده.. يحبهم بجنون ولا يتخيل حياته دونهما.. خنقهما بحبه وحمايته ولكنه لا يستطيع رؤية غلطته.. هو ببساطة يرغب الاطمئنان عليهما تحت عينيه.. ها هو اطمأن على ابنته جوار زوجها صحبة ابنهما ولكن ابنه هو من يُصعبها عليه منذ سنوات.. منذ تحول من ذلك الأب الداعم المُحب إلى المُحب بجنون كما تقول زوجته..
للحظة خطر على باله أخاه.. يونس النويري وكأنه يراه في ابنه بنفس تشتتهما، الفارق أن أخاه كان مشتتاً تائهاً أما ابنه مشتت بهروب من حمايته الخانقة حسب وجهة نظره.. لا يعلم كيف يفسر الأمر للجميع..
الجميع يراه متطرف في تعلقه بعائلته.. بأبنائه على وجه الخصوص..
ولكنهم لا يعلمون أنه مادة خام للفقد.. طفولته ومراهقته واحتياجه الدائم كان سبباً قوياً لشعوره المستميت بحمايتهم.. نقصه الذي عاش به طويلاً.. نبذه الذي سقط فيه منذ الطفولة، ببساطة وكأنه يعوض نفسه بوجودهم لا يعوضهم هم..
لا يعلمون أنه من يحتاج إليهم..
لا يدركون مدى شعوره بالخواء أثناء بُعد أبنائه عنه..
ابنته يصل إليها في أي وقت والحمد لله.. المعضلة كلها كانت في ابنه..
هذا الابن الذي لا يدرك أن والده في حاجة ماسة ودائمة إليه..
مريض هو بنبذ ابنه له وذلك شعور مميت إن كان لا يعلم..
وكأن الزمن لم يمر.. وكأنه ينتظر نظرة القبول من أخيه متمثلة في ابنه..
ابنه الذي شبّ رجلاً وأول ما فعله كان الخروج من تحت حمايته..
" تحاسبني على ماذا يا يونس.. هل تحاسبني على خوفي عليك "
ضحكة مستخفة خرجت من يونس يواجه والده بشجاعة هو أول من زرعها فيه..
" خوفك عليً يجعلك تستعمل معارفك لتضيق عليّ الخناق لتجبرني على العودة "
اقترب تمام خطوة واحدة يخبره بقوة ولكن بها من ضعف الاحتياج ما أنكره يونس..
" لأني أريدك هنا.. بجواري "
ثم لوّح بكفه بعصبية مقروءة دون مجهود..
" انظر إلى أمك.. ألا تثير شفقك حتى.. ألا تهتم بكونها تعيش عمرها ولا تراك إلا في المناسبات.. لماذا تفعل بنا هذا "
وهنا كان انفعاله مدوياً وهو يردد..
" لأني أكره التقييد.. أكره كوني جزء شيء مسلم به.. أكره كوني قالب تشكله كما تريد "
بهت تمام من انفعال ولده الذي تابع غير واعياً لتجمد والده..
" تعال يا يونس افعل يا يونس اعمل يا يونس وكأنك تعوض بي شيء "
هو حقاً يفعل.. ولكنه يعوض به كل شيء..
تراجع تمام محافظاً على مساحة كافية تهديه استقرار مؤقت..
" ألا يحق لي.. وهل لديّ من الأبناء عشرة.. أنا لدي أنت.. ومن حقي أن أجدك حين أريد "
" ولو كنت أنا لا أريد "
شحبت ملامح تمام ليدرك يونس وقوعه في خطأ كارثي كعادته حين ينفعل ينفلت لسانه بما يؤخذ عليه فها هو والده يردد كلمته بذهول مميت.. شعور يضاهي الطعنة في مقتل فلا قيامة بعدها..
" ألا تريدنا؟! "
تحرك يونس من مكانه تجاه والده يحاول تلطيف ما قاله..
" أبي أنا لم أقل هذا.. أنت فقط تقيدني بنموذج تريده وأنا لا أستطيع تقبله "
يلوح تمام بكفه محبَّطاً.. وشعور خانق يسيطر عليه وسؤاله خرج مبحوحاً متألماً..
" لماذا.. ما الذي يضرك أن تكون بجواري.. سندي في الحياة "
ثم استدرك لنهاية حتمية لابد لها أن تكون يوماً..
" هل تظن أني سأعيش طويلا.. هل تظن أن لدي الوقت الكافي لأتركك تفعل ما يحلو لك وتعود لتجدني في انتظارك.. "
رأى الألم على وجه ابنه.. ألم زاد من ألمه الخاص وهو مما جعله يتراجع قليلاً ولكن متمتماً بالحقيقية التي لا غبار عليها..
" سأكون في انتظارك دائماً ما دمت حيّاً إمّا لو حدث غير هذا فلا أعدك أنك ستجدني في انتظارك يا يونس "
داخله نيران من تمرد.. جنون.. حرية سعى لها دوماً منذ الصغر.. منذ شبّ على تضييق الخناق عليه من والده حماية له يعلم هذا جيداً ولكن الأمر أصبح مَرضياً مع مرور الوقت..
الحادثة التي تعرض لها هو وأخته جعلت من والدهما مهوساً مع مرور الأيام، فلو عليه لحبسهما في قمقم دون السماح لأي منهما بالخروج منه..
الأمر داخل يونس كان انفجاري ببداية مراهقته وقد مر سنوات على الحادثة رافضاً تلك الضغوطات من والده مقارناً نفسه بمن في مثل عمره متسلحين بتمرد.. حرية وجنون..
ابتدع يونس في مراهقته بالعديد من أشكال التمرد متمسكاً بفرصته وحقه في شيء كان يراه أساساً لكينونته حتى جاء مرحلة دخوله الجامعة ومطالبة والده بدخول جامعة بعينها لدراسة دراسة بعينها حتى يكون قريباً منه ويستلم العمل مكانه، هنا تحديداً كانت الانتفاضة ليونس الذي اختار دراسة أبعد ما يكون عن عمل والده.. الطيران..
اختار الطيران تحديداً متمسكاً بفرصة حريته.. رائياً فيه كل ما كان يهرب منه.. ورغم حريته التي انطلق خلفها إلا أنه يعشق والده.. ويدرك تماماً أنه يفعل ما يفعل إلا محبة له..
اقترب نصف خطوة وعيناه لا تغيبان عن وقفة والده المصمتة وكأنه يعلن دون كلام استسلامه لفكرة ابتعاده التي يفرضها على الجميع من حوله.. وعليه قبلهم.. وعلى قلبه أيضاً..
" أنا آسف يا أبي "
رغم الألم المرتسم فوق ملامح تمام إلا أنه لم يمتلك إلا التهوين على ولده لإدراكه بمحاربة نفسه في سبيل نفسه...
" لا تأسف يا بني.. قد أكون أنا من بالغت في أمنياتي .. لا عليك اذهب لعملك حتى لا تتأخر "
هم ليتحرك ولكن قاطعته إحدى العاملات التي خطت توجه كلامها لوالده..
" سيد تمام.. هناك شاب بالخارج يطلب رؤيتك "
رفع تمام وجهه لها يسألها..
" من يكون "
أجابته العاملة بطاعة..
" يقول أن اسمه فارس العمايري "
قطب تمام ما بين حاجبيه بتساؤل متعجب من سبب زيارة صاحب الاسم الذي سمعه دون أن يلاحظ توتر ابنه بعد سماعه لاسمه ضيفه..
" اسمحوا له بالدخول "
..
جر حقيبته..
وفي وسط المسافة بين الباب الخارجي والداخلي كمساحة خضراء كحديقة دائرية تحيط بالبيت الكبير قابل الشاب الذي يرتبط اسمه ارتباك كلي بمن زعزعت حصونه.. تعلق بها قلبه وهرب من ذاك التعلق منذ رآها في حفل زفاف أخته.. ليدرك حينها أن لها بصمة فيه منذ الصغر ولكنه قد نسي هذا أثناء حربه مع نفسه ومع والده.. حرب هروب من قيود تُفرض عليه هنا..
من أمامه ما هو إلا..
فارس العمايري
متعجل.. ملامحه متوترة وكأنه في عجلة من أمره لا يطيق انتظار مقابلة والده كان فارس يخطو تجاهه ليتقابلا في منتصف المسافة..
يونس بهيئة فخمة بملابس عملية مهنية كطيار يجر خلفة حقيبته الصغيرة التي تحمل شعار هيئة طيران يضع لها شعار آخر مُذهب فوق حافة حُلته..
توقف فارس للحظات كان فيها يونس قد اقترب من مكانه ووقف بدوره وبنظرات متبادلة وكأن بينهما مشترك ما قد يحدث.. أو حدث بالفعل من يَعلم وكليهما يحاول إنكاره..
تبادلا تحية مقتضبة وببعض من ضغينة لم يمنعها فارس سلم عليه مُعرفاً عن نفسه..
" فارس العمايري "
في رسالة خفية قيلت واستقبلها يونس ببساطة وهزة رأس واثقة مدركاً لهوية الواقف والذي رآه قبل فترة قصيرة في بيت العمايرية حين عثر على فراولة لئيمة توفق رأسين في الحلال..
" أهلا بك.. تفضل واعذرني لديّ سفر "
بكلمات مقتضبة خُتمت بسلام وتحية باهتة من قبل فارس الغيور من ذلك الذي تملك من مشاعر أخته منذ سنوات..
راقبه يونس من فوق كتفه وهو يبتعد متجهاً لباب منزلهم.. وداخله وخزة من غيرة سببتها رؤيته لفارس العمايري نفسه ولا يعلم السبب..
قد يكون وجوده في التو واللحظة مع والده بالداخل في حين أنه هو.. يونس النويري ابن تمام النويري يهرب من والده ومن تواجده بصحبته..
وقد تكون غيرة من طبيعة رؤيته وقربه ممن تسللت لقلبه بهوادة وعفوية وشقاوة رافضاً الاستسلام لها.. توبة جابر العمايري..
تلك التي يرغب وبشدة الذهاب إليها الآن بعد رؤيته لها في بيت العمايرية وذلك القرب المميز الذي حدث بينهما.. قرب رغم جماله إلا أنه كالعادة هرب منه.. كما يهرب من كل ما يلامس مشاعره ضَعفاً..
" يونس "
وهذا تحديداً جل الأشياء التي يهرب منها.. مشاعر أمه ومشاعره هو الآخر..
تباً.. لقد اختار هذا الوقت تحديداً لسفره واثقاً من عدم تواجدها بالبيت..
التفت ورسم على وجهه ابتسامة شقية لا تخدع أمه كالعادة ولكنها تمررها إرضاءً له..
" أمي "
كانت قد اقتربت منه.. عيناها تطوفان فوق ملامحه باشتياق لا ينضب.. اشتياق لو أرادت وصفه بكلمات لن تسعها لغة..
ورأى هذا.. رآه وأوجعه.. توترت ملامحه وهرب بعينيه ينظر لأي شيء إلا عينيها العطوفتين..
" أخبرتني أنكِ ستظلين مع أختي "
وهروب عينيه منها لم يمنعها الاقتراب منه أكثر تمد كفها الحنون الرقيق تلامس وجنته الخشنة تجبر وجهه على المواجهة وعينيه على النظر..
تسأله بل تلومه..
" هل كنت تريد السفر دون رؤيتي "
ازدرد لعابه بألم.. ألم رؤيتها بكل هذا الحزن الذي سببه لها.. ترك الحقيبة ورفع كفيه تجاهها يحتوي وجهها الصغير بين كفيه.. يعترف لها كطفل صغير دوماً ما لجأ لحنانها..
" أمي.. أفعل هذا لأني لا أريد أن أسبب لكِ الحزن "
اغرورقت عيناها بدموع أوجعته وزادت في وجعه وهي تعاتبه..
" أنت لا تريد أن تريح قلبي يا ولدي.. لماذا.. لماذا هذا التعب "
أغمض عيناه للحظات.. لحظات كانت كافية لمحاولته السيطرة على مشاعره المنفلتة تجاه أمه غصباً عنه..
مال تجاهها وطبع بشفتيه فوق جبينها بقبلة طويلة.. قبلة اعتذار، شوق، لهفة وحنين لكل شيء تمثله..
" أمي أرجوكِ.. أرجوك دعيني على راحتي وأنا أعدك أني سأفكر في كل الكلام الذي تقولينه كل مرة لي "
لا يعلم من أين خرج وعده ذاك.. وعد الذي لا يعلم هل سيحققه بالفعل أم لا..
ابتعد عنها متحكماً في ملامحه ومشاعره وهو يخبرها..
" لدي موعد طائرة وقد تأخرت "
أمسك حقيبته وحين همّ ليتحرك توقف ينظر لها للحظة.. لحظة غلبته فيها مشاعره.. مال تجاه وجنتها وقبلها متمتماً لعينيها بعد أن ابتعد..
" إلى اللقاء حبيبتي "
****
في غرفة استراحة طاقم المضيفات كان اثنتان منهن يقفان جوار بعضهما يتهامسان بوجل وترقب لخطة تم وضعها مُسبقاً..
" أنتِ بكل تأكيد مجنونة يا مها "
قالتها فتاة غاية في اللطف.. الجمال والرقة ولكن جمالها ليس صارخاً.. بل هادئاً كان بملامح ناعمة غير ملفتة.. اسمها أسيل ومها كانت نناديها سيلا كما على جميع الأصدقاء المحيطين بها أن ينادونها..
كلاهما تعملها مضيفة طيران على الخطوط الجوية للعاصمة..
" الجنون إن تركته يفلت من يدي "
قالتها مها بعزم من يرغب شيء ويفعل المتاح وغيره فقط ليناله..
وهي ترغب في الكابتن يونس النويري.. الطيّار الذي سلبها عقلها بحيويته.. بمرحه.. برزانته القاتلة حين يرغب.. وبعدم رؤيته لها من الأساس!!..
يونس النويري يتجاهل وجودها رغم محاولاتها الحثيثة للفت نظره..
" أحبه يا سيلا.. أحبه "
لوت سيلا شفتيها مدركة حقيقة ذلك الحب الذي تتغنى به صديقتها.. هي لا تحب يونس النويري.. هي ترغبه لأنه ببساطة لا يعطي لوجودها اهتمام.. لا يراها ولا يهتم أن يراها.. ولكنها تتحامق وتتكبر عن الإقرار بتلك النقطة تحديداً..
" أنتِ أعلم بمشاعرك.. أتمنى لكِ خطة ناجحة "
سخريتها كانت أبلغ رد لعدم اقتناعها بما تخططه صديقتها التي انتفضت تراقب من نافذة صغيرة من نوافذ الطائرة قرب مسبب أزمة عاطفية لها ولعقلها من الطائرة..
عدلت هيئتها سريعاً تحت نظرات أسيل التي راقبتها بعينين حانقتين نزقتين بفراغ صبر غير متمهل وغير متقبلة لتلك اللعبة التي أصبحت تدور في عقل صديقتها..
قبل أن تغادر مها الغرفة الضيقة متجهة للأعلى لتقف في انتظار الكابتن عند باب الدخول..
" مها دعك منه ما دام لا يراكِ "
لمعت عينا مها بظفر.. انتظار منتصر وستفعل أي شيء لتحقيقه..
" سأدعه يراني "
ثم تحركت متجهة للأعلى وأسيل خلفها تراقب تلك اللهفة المجنونة التي تنضح من أفعال صديقتها..
على بداية سلم الطائرة توقفت وعيناها تتابعان القادم على بُعد خطوات قليلة قبل أن يبدأ في الصعود.. خطوة تلو الخطوة بتوئدة.. برشاقة.. بثبات قادر على الإحاطة بصف كامل من الفتيات اللاتي سيقعن مدلهين بوسامته لا محالة..
خطوة تلو الخطوة فوق درجات السُلم.. طويل.. بجسد رشيق.. عيناه مغطاتين بنظارة ذات سوداء تحجب عينيه عنها.. شعره الناعم مصفف بحيوية أفقدته بعض من ثبات بعض الخصلات لتتأرجح بفعل خطواته..
كان يخطو فوق قلبها لا فوق درجات السلم دون أن يعلم..
وكل هذا وهو لا يلاحظها.. لا يراها.. لا يهتم برؤيتها وكأنه في عالم آخر.. برج آخر أو كوكب آخر ولكنها اكتفت.. حقاً اكتفت من تجاهله..
حين اقترب من مكانها تعمدت التحرك في اتجاه مروره متصنعة السقوط لتجبره على الإمساك بها..
وكان لها ما أرادت.. سقطت بين ذراعيه.. فوق صدره تماما وكفيها مفرودتين فوق صدره وأنفاسها قريبة منه حد الالتصاق بشفتيه..
" كـابتن يـونس "
مائعة.. مغناج..
متصنعة التوتر.. وقد قرأ تصنعها بكفاءة عالية.. حرر إحدى كفيه من فوق خصرها المنحوت ورفعها لوجهه يزيح بها نظارته السوداء وعينيه مسلطتان فوق ملامحها المرسومة زينتها بدقة عالية تدل على خبرة لا يخطئها أبداً..
" أهلاً بالحلوة "
كانت تريد أن يراها وها هو فعل.. فعل ما أرادت تماماً،
وكل شيء متاح في الحب و.. الحرب؟!..
***
