أرض زيكولا : الأخير

Start from the beginning
                                    

بدأ خالد يتحرك بحصانه , و ينظر إلى يامن الذى يقف مبتسماً و يلوح له بيده , و الحصان يتحرك ببطء , و خالد ينظر إلى بيوت المنطقة الشرقية و قصورها التى عاش بينها لشهور .. حتى اختفى يامن عن أنظاره , و تحرك نحو البحيرة
فابتسم ثم اقترب منها , و ترجّل و نزل ليشرب من مائها ..
ثم امتطى حصانه مجدداً , و أمره أن ينطلق فى طريقه
إلى المنطقة الغربية , و الشمس تسطع فوق رأسه الحليق .. يتطاير قميصه مع الهواء , و يسرع حصانه كأنه سهم يشق الطريق نحو الغرب ..
بينما تنطلق أسيل بحصانها خارج زيكولا تجاه بيجانا
نحو الشرق .. يسير كلاهما فى طريقه ,
و يبتعد كل منهما عن الآخر ..
خالد لا يفكّر سوى بكلمات أسيل ,
و أسيل لا يدور برأسها سوى خالد ..
يبتسم حين يتذكر حديثه إليها عن التلفزيون ,
و تبتسم هى بعدما تذكّرت إحمرار وجهه حين قبّلته ..
ينطلق الحصانان كلٌ نحو قدره الذى اختاره صاحبه ,
و تتحرك فوقهما الشمس من الشرق إلى الغرب
كأنها تراقبهما على ظهر تلك الأرض
و هما مجتمعان للمرة الاخيرة , و خالد يسرع
و يقلّب عينيه بين صحراء زيكولا و كأنه يودعها ,
و ينظر إلى مناطقها التى يمر عليها و يشير إليها بيده ,
و كأنه يخبرها بأنه سيرحل ..
و أسيل تغمض عينيها كأنها تتمنّى لخالد أن يحقق ما يريد .. حتى بدأت الشمس فى الغروب إيذاناً برحيل هذا النهار ..

حل الليل , ووصل خالد إلى أطراف المنطقة الغربية ,
و اتجه نحو البيت الذى يقصده على الفور ,
و ما إن وصله حتى دلف إليه بحصانه ,
و هناك وجد إياد فى انتظاره , و الذى صاح :
- لقد سمعت بما حدث اليوم .. هنيئاً لك يا صديق ..
فابتسم خالد :
- شكراً يا صديقى ..
ثم ترجّل , و أشار إلى حصانه :
- هذا هو الحصان الذى استأجره يامن ..
إنه أسرع حصان رأيته بزيكولا ..
لقد أحسن يامن الاختيار تلك المرة ..
فابتسم إياد ثم أخرج كتابه :
- و هذا هو كتابك ..
فابتسم خالد :
- مازلت أدين لك بأجر متابعة حفر النفق ..
فضحك إياد :
- لقد أعطانى يامن ذلك الأجر .. لم أطلب الكثير ..
فابتسم خالد :
- يامن ..
فسأله إياد :- هل سترحل الآن ؟
فأجابه : - نعم
فأكمل إياد :
- لقد قرأت بعض الصفحات من كتابك ..
- لقد أسعدك الحظ يا خالد .. إن الليلة بدر أيضاً ..
سيكون سردابك مضاءً .. , ثم نظر إليه و أعطاه مصباحاً نارياً :
- و هذا المصباح سيلزمك حتى تمر من نفقنا ..
فابتسم خالد :
- حسناً , و لكن عليكم أن تغلقوا طرف ذلك النفق
بعد ذهابى ..
فقال إياد :
- بالطبع يا صديقى ..
إن اكتشف أحد ما فعلناه فسنصبح خائنين لزيكولا ..
فوضع خالد يده على كتفه ثم صافحه و احتضنه ,
و وضع كتابه بين بطنه و بنطاله أسفل قميصه ,
و اتجه إلى فتحة النفق , و نزل السلم الخشبى بها ,
و بيده المصباح .. و أشار إلى إياد مودّعاً له ..

بعدها نظر خالد إلى النفق الأفقى فوجده مظلماً ..
فسمى الله , و بدأ يزحف على ركبتيه و بيده المصباح ,
يتحرّك مسرعاً و يحدّث نفسه ؛ ليست إلا أمتار
و أكون خارج زيكولا ..
يشعر أن نشاطه قد عاد إليه بعدما افتقده الأيام السابقة ..
و يكمل حديثه إلى نفسه ؛
- أرحل من أجل أسيل .. من أجل جدك ..
من أجل يامن , و يواصل زحفه ,
و يتجنّب الدعامات الخشبية
التى تركها من صنعوا هذا النفق ..
يتوقف للحظات ليلتقط أنفاسه ثم يبتسم ,
و يحدث نفسه مجدداً ؛ ما زلنا فى البداية يا خالد .. هيا ..
ثم يكمل تحركه حتى لمح الفتحة الأخرى للنفق ,
و النور يتسرب خلالها فأسرع من تحركه ..
يجذبه الأمل نحوها .. هيا يا خالد .. هيا .. إنها لحظات..
هيا , و يزحف بقوة , حتى وصل إلى تلك الفتحة ,
و قفز إلى خارجها , و مازال مصباحه بيده حتى وجد نفسه بأرض رملية يظهرها نور البدر الذى يسطع بالسماء ,
و التفت ليدق قلبه بقوة حين وجد سور زيكولا بشموخه
خلفه .. فصاح فرحاً :
- أنا خارج زيكولا .. أنا خارج زيكولا ..
و ظل يعود بقدمه خطوات للخلف , و ينظر إلى سور زيكولا
و إلى ارتفاعه الشاهق الذى طالما كان عائقاً له ..
حتى انزلقت قدماه فى الرمال فجأة , و سقط على ظهره ,
و سقط المصباح بعيداً عنه , و مالبث أن مد يده كى يلتقطه حتى وجد جسده يسقط بحفرة وسط الرمال , و ظل جسده يهوى لأسفل , و يرتطم بجدران تلك الحفرة , و يهوى أكثر فأكثر دون أن يتوقف , و أمسك برأسه التى ارتطمت كثيراً ,
و بدأت الدماء تنزف منها ..
حتى بدأت حركته تقل شيئاً فشيئاً ثم توقف جسده
عن الارتطام لينظر أمامه ليجد نفقاً ممهداً يتجه بانحناء لأسفل و لأحد الاتجاهات فأسرع به يجرى ..
الطريق يأخذه لأسفل , و لا يفكر بشئ سوى أن يسرع به .. يريد أن يصل إلى ما يريده ..
يعلم أن انحناء الطريق لأسفل ربما لسبب لا يعلمه ..
إنه صُمم كذلك ..
ربما كان سبباً كى يحتوى فرعي زيكولا بالكامل ..
أو ربما كانت هناك فروع أخرى ..
يتحدث إلى نفسه , و تدور بعقله تفسيرات لا يأبه بها كثيراً .. حتى سقط و تدحرج بجسده مجدداً فابتسم و نهض , و أكمل عَدْوَه , و كلّما سقط تدحرج جسده قليلاً ثم ينهض مجدداً ,
و يكمل عدوه , و ظل يواصل طريقه , و الوقت يمرّ ..
و إن أصابه التعب وقف للحظات كى يلتقط أنفاسه
ثم يسرع من جديد , و يحدّث نفسه ليحفزها :
- هيا يا خالد .. لم يعد سوى القليل ..
حتى زاد تعبه للغاية فجلس , و أسند ظهره إلى جدار ,
و مسح بذراعه حبات العرق التى أغرقت جبينه ..
ثم نهض و سار بضع خطوات حتى وجد صورة تشبه
الصورة التى وجدها حين نزل السرداب لأول مرة ,
و الصورة التى نُقشت على سور زيكولا بالمنطقة الغربية فوقف أمامها , و ابتسم :
- فوريك ..
و ما إن مر أمامها حتى شعر بذات الهزة العنيفة
التى حدثت من قبل حين عبر السرداب للمرة الأولى ,
و نظر خلفه ليجد جدران السرداب قد بدأت فى الانهيار .. فابتسم و بدأ يعدو .. يسرع .. و الجدران تنهار من خلفه .. تخطو قدماه مسرعة ..
يعلم أن الانهيار من خلفه يدفعه لطريق مقصود ..
يسرع و يخشى أن يطوله الانهيار فتتحطم معه آماله ..
هيا يا خالد .. يحفز نفسه .. هيا ..
حتى بدأ الصوت يقل من خلفه , و هدأت الحركة العنيفة ,
و لم تعد هناك انهيارات للجدران , و ما إن نظر أمامه
حتى وجد نفسه فى طريق للسرداب أكثر اتساعاً ,
و جدرانه منقوشة بنقوشٍ كثيرة .. فصاح :
- سرداب فوريك .. سرداب فوريك الأساسى ..
و أسرع به , ترتطم قدماه بالهياكل العظمية المنتشرة بأرضيّته , و أكمل جريه حتى وصل إلى سلمه الطويل
فأسرع إليه و صعد درجاته ..
يخطو العديد منها بخطوة واحدة منه ..
يحدّث نفسه .. لم يعد سوى القليل يا خالد ..
يصعد و لا ينظر خلفه ..
ينظر إلى درجات السلم المتبقية , و يخطوها مسرعاً ..
حتى وصل إلى أعلاه فتوقف و انحنى ليمسك ركبيته
ليلتقط أنفاسه , و كأنه يفكر , و يتذكر يوم نزوله السرداب للمرة الأولى , و حدّث نفسه بصوت يسمعه :
- ها أنا قد مررت من السرداب ..
- الآن النفق ..
- عليك أن تسرع يا خالد .. لا يوجد هواء بالداخل ..
ثم صمت و أكمل :
- و لا توجد إضاءة ..
عليك أن تتذكر جيداً كيف كان مسارك بهذا النفق ..
ثم أغمض عينيه , و كأنه يتذكر ثم فتحهما ,
و نظر إلى الفتحة ذات ألواح الخشب المتكسّرة ,
و التى تصل سرداب فوريك بالنفق المظلم ..
و سمى الله ثم ملأ صدره بالهواء ,
و أسرع إليها فوجد الظلام يسود بداخله ,
و أسرع يزيح شباك العنكبوت التى تملؤه , و يسرع ,
و يتذكر فى لحظات طريقه حين نزله ..
يسرع فى الظلام , و كلما وجد طريقه خالياً يتقدم أكثر ..
و يتحرك كأنه يغطس بأعماق محيط ..
تحركه كمية الهواء التى التقطها منذ دخوله
بعدما لم تكف فتحة هذا النفق لتدخل المزيد من الهواء
مع كثافة شباك عناكبه , كأنه صُمم ليكون قبراً للاختناق
حتى لو لم يكن مغلقاً بالكامل , و بدأ يشعر بالاختناق ,
و لكنه أكمل طريقه , و تسارعت أنفاسه , و دق قلبه مسرعاً , و برزت عيناه حتى ارتطمت قدماه بشئ صلب ,
و حين تحسسه أدرك أنه سلّم النفق فصعد درجاته على الفور حتى اصطدمت رأسه ببابه الفولاذى الذى قد أُغلق حين انكسر اللوح الخشبى , فبدأ يدفعه بقوة .. يعلم أنه يستطيع ذلك .. يدفعه و يحاول أن يرفعه ..
يحفز نفسه , و أخرج ما لديه من هواء :
- هيا يا خالد .. هيا ..
و يضغظ على أسنانه , و يدفع بكتفيه ..
حتى بدأ الباب يرتفع قليلاً , و اندفع الهواء إلى صدره:
- هيا يا خالد ..
حتى ارتفع الباب بأكمله , و قفر خالد إلى خارجه ,
و سقط بجواره وصدره يعلو و ينخفض مسرعاً .. و صاح :
- أنا رجعت ..
و أمسك برأسه و كأنه لا يصدق نفسه ..
يجلس بجوار الباب الفولاذى , و ينظر إليه
و يتحسس وجهه كأنه يتيقن أنه ليس نائماً ..
ثم ينظر إلى ملابسه الزيكولية , و يتحسس رأسه
ليجده حليقاً فأدرك أنها حقيقة ..
ثم أغلق باب النفق من جديد , و أسرع إلى الخارج
فوجد الظلام يسود السماء ثم عبر السور العالى
الذى يحيط بالبيت المهجور , و ما إن عبره حتى سمع آذان الفجر يهزّ كافة أرجاء بلدته .. البهو فريك ..
فابتسم , و بدأ يكرر الآذان كلّما سمع كلماته , و أسرع بين شوارعها الخالية , و كلما رأى أحد الأشخاص يمر ..
حاول أن يختبئ حتى لا يراه بهذا الزىّ ..
حتى اقترب من بيته , و ما إن وصل إليه , و دقّ الباب بقوة حتى وجده مفتوح قليلاً فأدرك أن جده قد فتحه كعادته
مع حلول الفجر ثم دلف إليه فوجد جده يصلى الفجر جالساً ,
و يعلو صوته بآيات من القرآن فجلس خلفه فى انتظاره ,
و تساقطت دموعه حين سمع دعاءه بأن يعود إليه سالماً
حتى انتهى و التفت فوجد خالد خلفه فتسارعت أنفاسه
و كأنه لا يصدق نفسه , و احتضنه بقوة و دمعت عيناه ,
أما خالد فبكى كثيراً حين احتضنه , و كأنه لا يصدق نفسه
هو الآخر , و ظل يحتضنه و يمسح رأسه بكتفه , و يبتسم
بينما يرتشف دموعه :
- كنت بقولك هرجع لك يا عبده ..
- قلت لك إنى هرجع ..
ثم سقط , و كأنه قد فقد وعيه ..

أرضــــــــ زيـــــــّــكَوُلَآWhere stories live. Discover now