١٤ والأخير.. بملء القلب.. وإرادة الروح

Start from the beginning
                                    

طالت فترة بقاءها بين جدران المنزل، وعلى الرغم من أن علاقتها بخيرية تحسنت كثيرا، وأصبح البقاء معها لا يشكل عباء على كاهلها، لكنها حنت إلى أيام العمل، ورغبت في تخفيف الحمل المادي قليلا عن صبحي، فقررت النزول للبحث عن عمل، وضعت أوراقها في أكثر من مركز للتأهيل، بعد أن وجدت أن مكانها في المركز السابق قد تم شغله بغيرها، وانتظرت أن يتصل بها أحدهم، لتعود للعمل من جديد، بعد انتهاء فترة العدة، التي طالت مستشعرة أنها ثلاثة دهور، لا نهاية لها.. وما من شيء خفف وطأتها على نفسها، أكثر من رسائله، التي يبعث بها يوميا، وكأنه عداد تنازلي، وكم أسعدها ذلك! على الرغم أنها لم ترد بحرف، فقط كانت تقرأ الرسالة اليومية، في سعادة منقطعة النظير، وهو ما تخلف يوما عن إرسالها..
أوشكت العدة على نهايتها، وفترة الانتظار طالت، وما من مكان بعث إليها رغبة في توظيفها.. نامت على أمل، أن الله سيبعث فرجه، لكنه ربما يؤجله لما بعد انتهاء العدة، استيقظت في تيه على صوت الهاتف، اعتقدت أن واحدة من بنات أخيها قد ضبطته من أجل الاستيقاظ لمدرستهن، في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح، والتي لم تتخط السابعة على أقصى تقدير، ضغط على زر ايقاف الرنين في تيه، لكنها تنبهت أخيرا أنه اتصال، فردت على عجل، بصوت متحشرج من أثر النعاس: ألو!
لحظة صمت خيمت، كأن ذاك الذي ينتظر على الطرف الآخر يلتقط أنفاسه، وكأنه كان تحت سطح الماء لفترة طويلة، ولتوه خرج، يجذب نفس الحياة لرئتيه، ما دفعها لتهتف من جديد، متسائلة: ألووو! مين معايا!
هتف محدثها، بعد أن جمع شتات نفسه: أنا أيوب..
انتفضت موضعها، ولم تنطق، لكنها سرعان ما لملمت المبعثر من ثباتها، هاتفة في جزع: ساجد بخير يا أيوب بيه!
أكد في نفاذ صبر: ساجد بخير، من ساعة دخولك لحياته وهو بخير، أبوه اللي مش بخير يا سلمى.
تعثرت الأحرف على لسانها، ماذا عساها أن تجيبه!..
ليستطرد هو، بنبرة ما عرفت كيف تفسر حال صاحبها، الذي همس بتردد ملهوف، ولهفة مترددة: أيوب عمره ما كان بخير يا سلمى، عمره ما كان مرتاح، ولا مبسوط، عمره ما ضحك من قلبه، ولا شاف الدنيا حلوة، إلا لما دخلتي أنتِ حياته..
شهقت وأمسكت دموعها، ليستطرد وكأنما يلقي ثقل جبال كانت راسية فوق كاهلي روحه، مؤكدا في نبرة عاشق: أنا!.. أنا مش عارف الأيام اللي فاتت دي عدت عليا إزاي! رجعت للطيران بس عشان ألاقي كل يوم نفسي في بلد، كنت بهرب من الفيلا، اللي كل ركن فيها كان بيفكرني بكِ، واللي لولا وجود الشيخ وساجد فيها، ما كنت دخلتها إلا وياكِ، سلمى .. تتجوزيني!
ساد صمت مقطوع الأنفاس، لم يقطعه إلا شهقات بكائها، ليهمس هو محاولا تلطيف اللحظة: سلمى! ليه البكا! شكلي مكنش المفروض اتجنن واتصل دلوقت أطلب إيدك، واضح إن مودك مش بيبقى تمام الساعة ٧ الصبح!
اتسعت ابتسامتها من بين دموعها، ليستطرد في اضطراب: بس لو تعرفي! أنا منمتش أصلا، قاعد بصبر نفسي، منتظر الساعة تعدي ١٢ عشان أعرف أكلمك، وأنا متأكد إنك مش على ذمة راجل تاني، عشان ارتاح واقولك اللي جوايا.. أنا لولا الرسايل اللي كنت بحطها على حالة الواتس، واللي كنت بقعد استنى امتى تشوفيها، واللي كانت خاصة بك، محدش بيشوفها غيرك، كان زماني اتجننت.
همست سلمى باضطراب، عندما استشعرت أنه ينتظر منها جوابا: أنا!.. أنا..
قاطعها أيوب متعجلا ردها: أنتِ إيه! .. هو الطلب صعب شوية، والتوقيت عجيب، ومعاشرة راجل زيي شيء صعب، أنا عارف، لكن أنا..
هتفت سلمى تقاطعه في تردد وخجل: أنت راجل تستاهل كل محبة الدنيا.
هتف أيوب مضطربا: أنا! ..
لم تحر جوابا، فاستطرد متسائلا في لهفة: يعني أنتِ موافقة!
همست باضطراب: كلم صبحي أخويا وأنت تعرف..
هتف متعجلا: طيب حالا، هروح أكلمه دلوقت..
هتفت سلمى تستوقفه ضاحكة: دلوقت! الساعة ٧ الصبح! ده تلاقيه لسه نايم! حد يطلب أيد حد على غيار الريق!
أكد أيوب ضاحكا: ايوه دلوقت وحالا .. واللي نايم يصحى، وسواء وافق ولا لأ.. هتلاقيني عندكم النهاردة بقرا الفاتحة، ومش راجع إلا بكِ..
همست في خجل: للدرجة دي سلمى فارقة معاك!
همس أيوب في عشق: سلمى دي عوض رب العالمين اللي كان شايلهولي، عوض عن وجع وابتلاءات، ربك وحده عالم عدت عليا إزاي!
لم تنطق حرفا، دموعها تنساب في سعادة، لا تصدق كل هذه الاعترافات الرائعة التي ما كانت تتوقع سماعها ولا في أكثر أحلامها ابهارا..
استطرد هو في عجالة: أقولك سلام دلوقت، رايح اقلق منام أخوكِ.
قهقهت، ليهتف مسترسلا: هو ايه نظامه بالظبط وهو صاحي من النوم! عصبي .. ولا ايه!!
ما زالت تضحك غير مصدقة أن ذاك أيوب، لقد فقد عقله كليا، ردت من بين ضحكاتها: أنت وظروفك!
هتف أيوب: طب سلام بقى، أما أروح أكلمه..
أنهى المكالمة متعجلا، لتسمع بالفعل صوت تليفون صبحي يرن، تصلها صوت رناته، فيرقص قلبها طربا، فما بين طرفة عين وانتباهتها، أضحى أقصى أحلامها بعدا، أقربها واقعا، بل أصبح حقيقة ماثلة بين كفيها.. تنتظر أن يأتِ صبحي ليسألها رأيها، لتعلنها صريحة .. نعم.. نعم بملء القلب، وإرادة الروح..
                  *****************
على الرغم من استشعار صبحي لصلاح أيوب، وأنه لا يمكن مقارنته بمجدي، بأي حال من الأحوال، لكنه أحس أنه لا يرغب في إعادة التجربة من جديد، هو لا يدرك شيئا عن تفاصيلها حتى اللحظة، لكنه لا يرغب في وضع أخته بنفس التجربة التي يحدثه حدسه بمدى فظاعتها، مرة آخرى.. ما جعله يماطل أيوب قليلا في الرد.. ولم ينطق بالموافقة سريعا.. بل طلب وقتا للتفكير.. لتنتفض خيرية بجواره على الفراش، هاتفة في حنق: ليه كده يا راجل! أختك ربنا يكرمها بعريس محترم زي ده وتقوله نفكر وناخد وقتنا! ده أنت نفسك شكرت فيه، يبقى مالك!
هتف صبحي متعجبا: وايه المشكلة لما أعزز أختي! مش كفاية اللي حصلها لما اتسربعنا فالجوازة الأولانية، واللي جه من وراها!
همست خيرية: اه والله صدقت، ده شافت منها اللي محدش شافه..
هتف صبحي في فضول: هي حكت لك حاجة!
هزت خيرية رأسها تأكيدا، هاتفة له في تردد: بس قالت لي مقلكش، مكنتش عايزة تشيلك الهم، وهي حكت من باب الفضفضة، بس أنا هقولك، عارف ليه! عشان تعرف إن أختك تعبت، وربنا بعت لها أيوب ده، عشان يكون عوضها عن كل اللي فات..
هتف صبحي يتعجلها: طب ما تقولي اخلصي، ايه اللي حصل!
بدأت خيرية تسرد له ما كان، منذ أن وطأت سلمى أرض مطار تلك البلاد البعيدة، حتى جاء بها أيوب لمصر، ساعة أن قابله فالمطار.. مستطردة: دي مكنتش تعرف إنه معاها ع الطيارة، رفضت حد يجي يوصلها، لكن هو مخلصهوش، وركب معاها من غير ما تدرى، لحد ما أتأكد إنها معاك، اتعرف عليك وقالك صون الأمانة.. عرفت ايه هي الأمانة يا سي صبحي.. الراجل شاري أختك.. وكان مستني عدتها تخلص عشان يطلبها.. وبيني وبينك .. أنا حاسة إن أختك ميالة له..
هتف صبحي في صدمة، ما أن استجمع تفاصيل ما حدث: سلمى حصل لها كل ده، دي راحت تتبهدل مش تتجوز، وبعد ده كله، كان عايز ابن..
قاطعته خيرية: اهو غار، سلمى بتقولي إنه وصلها خبر موته، عرفوا مصايبه وكانوا هيرحلوه، راح مموت روحه..
هتف صبحي: في داهية، ربنا لا يسامحه.. ده البت لا اتجوزت ولا شافت جواز.. منه لله..
هتفت خيرية: عشان كده بقولك، أيوب شاريها بجد، رد عليه بالموافقة، بعد ما تسألها.. أهي عندك جوه، بتساعد العيال عشان يا دوب ينزلوا مدارسهم..
هز صبحي رأسه موافقا، وقد قرر في قرارة نفسه، أن يتصل بأيوب معلنا موافقتها بعد أن يأخذ رأيها، فأخته تستحق الهناء مع رجل حقيقي يصونها، بعد كل ما عانت..
              ****************
لا تصدق أنها جواره اللحظة، تجلس معه على الطائرة المتجهة لبلاده، بعد أن عُقد قرانهما منذ ساعات، يمسك كفها بأحضان كفه، كأنما يؤكد لها أنها لن تبتعد عنه مطلقا، يتطلع إليها بنظرات كأنه حاز الدنيا وما فيها، حتى أنها بدأت تشعر بالحرج من تطلع البعض صوبهما، وذلك لاصراره على ارتدائها ذاك الثوب الرائع من الشيفون الأبيض، الذي جعلها أشبه بالأميرات، واضعا عليها عباءته، ما أن وصلوا المطار، مستشعرا الغيرة، عندما أدرك في خضم التهائه بها، نظرات الناس نحوها، ما أشعرها ببعض الراحة، تطلعت لتفاصيل قاعة الوصول، وتذكرت ما كان، عيناها سقطت بلا إرادة منها صوب ذاك المقعد الذي شاركها أوقات وحدتها، وذاك الآخر المنزوِ هناك، الذي كان مجلسها حين قابلت أيوب للمرة الأولى، وبدأت من عنده قصتهما، شعر أيوب بتيه نظراتها، واضطراب مشاعرها، ما دفعه ليهمس بالقرب منها: حبيت تنزلي المطار وأنتِ لابسة فستان أبيض، يمكن مش فستان فرح بالمعنى المفهوم، لكن حبيت إنك تنسي اللي فات، وتكون لكِ ذكريات جديدة، ذكريات حلوة، بعيد عن كل اللي كان.
ضمت كفه في امتنان، حتى ظهر سعدون الذي كان في انتظارها بالعربة، مهللا في سعادة..
انطلقوا صوب الفيلا، التي ما أن وصلوا لأعتابها، حتى دمعت عيناها، مستشعرة أنها عادت بالفعل إلى حيث تنتمي، إلى المكان الذي ولد فيه حبها لأيوب، والذي تعتبره وطن حقيقي، ضم كل أحبابها، وذكرياتها الحلوة معهم.. هلل مالو في فرحة، ما أن عبرت السيارة البوابة الحديدية، ليعلو نباح هزاع في فرحة غامرة، أشاروا له من موضعهما مرحبين، قبل أن تقابلهما نفيسة بالزغاريد المدوية، والمتعاقبة في حماس، حتى تحشرج صوتها تأثرا، فاكتفت مندفعة تجذب سلمى لأحضانها في محبة خالصة، تطلق الدعوات والمباركات، قبل أن يمسك أيوب بكفها من جديد، ليسيرا في اتجاه حجرة الشيخ، الذي ما أن انفرج باب حجرته على محياهما معا، حتى دمعت عيناه وهو يتطلع لهما في سعادة طاغية، هاتفا في تهليل: الله أكبر، والله سيد الرجال، وعدت واوفيت..
تقدمت سلمى نحو الشيخ في محبة، وانحنت مقبلة ظاهر كفه، ليتبعها أيوب، ليستطرد الشيخ مازحا: والله يا سلمى، كنت واخد عليه العهد، ما يدخل هالدار إلا ويدك في يده، وطلع رجال ووفى بالعهد.. مبارك يا بنتي، حطي أيوب بعيونك، هاد الولد يستاهل من المحبة ملء الأرض والسما، وأنتِ كريمة، ما عمرك هتبخلي عليه أبد.. روحوا يا ولاد، الله يبارك لكم ويسعد أيامكم يا رب ..
قبل أيوب جبين الشيخ، ممسكا بكف سلمى، مغادرا الغرفة في هدوء، لتشدو أم كلثوم خلفهما:
            الليل وسماه، ونجومه وقمره.. قمره   
   وسهره.. وأنت وأنا.. يا حبيبي أنا.. يا حياتي أنا..
صعدا لحجرتهما، مارين بحجرة ساجد، طلا عليه للحظة، وغادرا مستكملين المسير صوب جناحهما، دفع أيوب باب الجناح، لتدخل إليه بقلب وجل، متطلعة حولها في تعجب، لقد بدل أثاث غرفة الاستقبال كليا، تعجبت: غيرت شكل الاوضة خالص..
جذبها للداخل، صوب حجرة النوم مؤكدا: طبعا مش عروسة ولازم اجيب لك أحسن حاجة، تعالي شوفي، يا رب يعجبك ذوقي..
تطلعت للغرفة التي دخلتها لمرة واحدة، يوم مناوبتها مع سعدون، بعد عودته من حادثته المشؤومة، لقد تبدل شكل الغرفة تماما، أصبحت حميمية بشكل دافيء، مخالف لطبيعتها الأولى، والتي كانت تتسم بالبرود بعض الشيء..
أكدت في اضطراب: حلوة أوي.. تسلم ايدك..
جذبها أيوب في هوادة نحوه، فازداد وجيب قلبها، وما أن وضع كفيه حول خصرها، يقربها صوب صدره، إلا وبدأت ترتجف في ذعر، وقد تداعى على فكرها، كل ما مر بها من أحداث ببيت مجدي، رفع أيوب كفيه عنها، وهي تقف أمامه في استكانة، منكسة الرأس، لا تنطق حرفا، فقط ترتعش كورقة في مهب ريح ذكريات قاسية، تكاد أن تعصف بثباتها..
مد أيوب كفه، رافعا ذقنها، متطلعا في عشق لعمق عينيها الدامعتين، هامسا في نبرة حانية: سلمى! أنا أيوب..
أخذ يكررها، لتهدأ نفسها، متطلعة نحوه في تيه لحظي، لتتذكر رويدا كيف كررت اسمه حين أنقذها من بين يدي الرجل الحقير الذي حاول الاعتداء عليها، لتجد نفسها بلا وعي، تندفع صوب أحضانه، مؤكدة من جديد، أن ذاك الرجل كان وسيظل، مظلة أمان لها من خطوب الزمن، وأمطار الوجع..
طوقها بذراعه، وهي ما تزال تردد اسمه، ليزيد من أسرها بأحضانه، هامسا في عشق: اااه يا سلمى، أنا أيوب، أيوب اللي لقى بقربك دوا  روحه من علل كتير، روح أيوب كانت ماتت من زمن بعيد أوي، مكنتش فاكر إني هحس إني عايش من جديد، إلا لما ظهرتي بحياتي، كأنك الضي اللي نور بعتمة روحي، خلاني أشوف الدنيا من تاني.. وخديها عهد من راجل عمره ما خلف لا عهده ولا وعده، أنا عمري ما هكون إلا أمانك، وعوضك عن كل اللي راح، بحبك يا سلامات..
شهقت بين ذراعيه، لسماعها تلك الكلمة التي ما ظنت أنها قد تسمعها صدقا من مخلوق، لكن ها هو يتهجى أحرفها.. حرفا ..حرفا.. ويبث معناها .. شوقا وهياما.. وهي بين ذراعيه طائعة .. تمنحه محبة بحجم الكون.. وعشق مبذول بسخاء، لا يقدر على هبته، إلا قلب في مثل صفاء قلبها.. ولا يستحقه إلا روح في جسارة روحه.. يتسلل صوت أم كلثوم من حجرة الشيخ.. والتي ما زالت تشدو في عذوبة:
         خدتني بالحب في غمضة عين..
            وريتني حلاوة الأيام فين!
      الليل بعد ما كان غربة، غربة مليته أمان..
    والعمر اللي كان صحرا، صحرا صبح بستان..
                     ***************
                                   يتبع..
                  الخاتمة بمشيئة الله، الثلاثاء القادم
#احذر_من_يطرق_باب_القلب
#بنت_جاويش
#نداهة_أرض_الحكايات

احذر من يطرق باب القلب! Where stories live. Discover now