الحسين يولد من جديد

في البدأ

التقيتك مرتين مرة قبل "صفر" والاخرى بعده .. وكنت يومها في العشرين وها انا اطل على الاربعين.
ودار الزمن وطوحت بي الايام وقد زلزلت الارض زلزالها.
والعراق الذي كان ارض الخصب والامل والحياة، ومرفأ الائمه الازطهار اضحى ارض الجمر. كل شيء فيه يحترق. وبدت الاشياء عارية ومقرفة وقد ذر الشيطان قرنيه يعربد ويدمر ويحيل الاشياء الخضراء رمادا تذروه الرياح .. الامال  .. الاماني .. الحياه المطمئنة الآمنة .. كل شيء اضحى هباءا  منثورا.

لن اكون قاسيا او مجانبا للحقيقة لو قلت ان الامة في العراق قد ركعت للنمرود ، وان كل المذابح التي حدثت في العراق لا تمثل إرادة، وحالة شعب وان الدماء التي لونت ارض الرافدين ما هي الا صرخة الضمير المثقل، ولو كانت الحقيقة غير ذلك ما بقيت وحيدا يا سيدي، لم يبقى الى جانبك احد حتى من اهل بيتك الا "آمنة"، وقد تشربت "زينب"بعد ما رأت فيك ملامح الحسين ولكن الاوغاد الذين عضوا انامل الندم لانهم لم يقتلوا زينب يوم عاشوراء، قتلوا "آمنة" من اجل ان تبقى ثورتك دون صوت.

اجل يا سيدي التقيتك مرتين مره قبل "صفر" وما ازال حتى اليوم احس دفئ نظراتك الحانية، بريق عينيك يتألق فيهم الحسين، وكان هذا مصدر عظمتك؛ الذين كانوا يحجون اليك لم يقراوا "فلسفتنا" او "اقتصادنا" لقد غرقوا في شواطئ روحك العظيمة وقلبك الكبير.

اجل يا سيدي التقيتك مرتين مرة بعد "صفر" وما ازال اتذكر دفء الكلمات وعمق الحروف وانت تحتل زاويه صغيرة في مكتبتك والذين جلسوا في حضرتك لم يدركوا بعد انك ستحتل التاريخ.

ما زلت اتذكر ذلك المشهد المحفور في ذاكرتي ما يزال وجهك المضيء ماثلا امامي رغم ضباب الايام وغبار السنين.

ما زلت اتذكر سيل الأسئلة التي اعدها طالب جامعي .. وكانت اسئله مصيرية حساسة يتهيب الكثير الاصغاء اليها خوفا او عجزا وكنت وحدك الذي يبغي ويجيب دون عجز او وجل ..

سال الطالب عن اوراق اليانصيب وان لها غايات سامية فلما تحرمها؟! فقلت: ان الغايات السامية تلزمها وسائل سامية..

وسائل الطالب عن اللحوم المستورد" فأجابت بحرمتها رغم "العيون الزجاجية".

وسال الطالب مره اخرى عن مجتمع الجامعة فقال: نحن يا سيدي طلاب وطالبات في الجامعة ونحن ملتزمون بالدين، تنبثق تعريف للمجتمع الاسلامي بانه مجتمع مختلف ولكنه ملتزم فما هو رايكم؟

وسكت هنيهة يا سيدي ثم انسابت كلماتك هادئة ما زلت اتذكرها بعد 20 سنة.

فقلت يا سيدي ما لا انساه: ان الاسلام لا يقف موقفا حديا من مسألة الاختلاف،ولكنه ياخذ بنظر الاعتذار عدم الاختلاط ما أمكن، انني اسجل هذه للذكرى فقط، لانني وعندما ودعتك يا سيدي تخطفتني الكلاب. اقتادوني الى اقبية التعذيب في بغداد .. سالوني عنك، انهم يخشوك .. يخشون بريق نظراتك لانها ترنوا الى المستقبل. يخشون قلبك لانه قنبلة موقوتة ربما تنفجر في اي لحظة فتحيل قصورهم وعروشهم هباء منثورا.

عذبوني يا سيدي لاني التقيتك مرتين .. سألوني من اقلد فقلت غيرك ولو قلت اقلد الصدر لقتلوني.
العالم يا سيدي لن يصدق محنتك .. لن نصدق الاهوال التي مرت على عينيك ولهذا ستبقى مجهولا، الجيل الذي سيدرك سرك كما يزال في رحم الايام.
عذرا يا سيدي انا لا اريد ان اؤرخ لك .. انا اؤرخ لنفسي في التاريخ يخص الموتى، اما انت فقد التحقت بالقافلة ... قافلة الحسين والذين انطلقوا مع الحسين لن يموتوا ...
لقد حطموا قضبان الزمن الصدئة واكتشفوا سر الخلود.

كمال السيد