الفصل السابع

ابدأ من البداية
                                    

الشيء الواضح هو أنها باتت متوترة...
عودتها للبيت دون نظرة الضابط للمجرم من أخيها لم تكن مكافئة كافية على صبرها عليه... أمها و سلام يحاولن أن يقلن كلمة تسامح أو اعتذار لكنها تنظر إليهن بخيبة أمل و تتجاهلهن... الوحيدة التي اقتحمتها بقوة هي ميار، و قد فاجأتها في الشرفة تلومها بقوة...
"لم أنا معهم؟؟... لم تلومينني مع أنك تعلمين أن الأمر لا دخل لي فيه؟؟... لو كنت تريدين القطيعة فهذا أمر آخر، لكن أن تشمليني فيها بظلم؛ هو شيء لن أغفره لك أبدا!"
تنظر إليها ثم تتنهد بقوة قبل أن تطلب منها أن تجلس...
"فقط لا تتحدثي عن ندم أحد أو حزن أحد أو بؤس أحد... يكفيني ما حل فيّ"
و بتحمس تجلس الأخرى دون كلام عن الآخرين... فقط تثرثر عن مدرستها و صديقاتها بطريقة فعلا سحبتها من التوتر و الحزن لتندمج معها قليلا...
أما في الليل تتوجه لتنام بهدوء و هي تعي أن سلام تريد أن تتكلم معها... لكنها لا تتحدث و لا تخرج أي حرف... بل تعطيها ظهرها ما ان تحاول أن تفتح فاها...
يوجد الكثير من الوجع بالذات منها...
خطبة دون أن تعرف...
ماذا تظن؟؟
هل ستخطف خطيبها؟؟
و المؤلم هو صرف محسن لها، في ذاك اليوم لبيت صديقتها كي لا يراها أحد...
أي أحمق يراها مع سلام يعلم أن الأخيرة أجمل بمراحل... شعرها العسلي الناعم أكثر من اللازم... عيناها العسلية الناعسة و رموشها الكثيفة الفاتحة مثل شعرها... بشرة بيضاء لا شائبة بها مع جلوسها في الدار و عدم تعرضها للتعرية الجوية!
بالإضافة لرشاقة طبيعية و قامة طويلة تعلوها بست سنتيمترات...
أي أحمق يعلم أنها أجمل منها...
لكنها تظن دوما أنها أقل منها... لا تظن بل تؤمن... لذلك خافت أن توجد في الحدث لتفسده... جيد... لقد أفسدته عن بعد... ربما المرة المقبلة ينفونها لبلد آخر!
لم تستطع أن تنام، و عقلها رغما عنها يحيد لأفكار أخرى... يد تسرق دبوسها... سعيد بالتعامل معها... هي مجرمة و لم تحفظ الأمانة...
اللعنة... و كأنه ينقصها هذا الرأسمالي –كما يقول الدكتور يوسف- ليزيد من حيرتها و قلقها... لم تجد أخيرا مع تقلبها إلا أن تنهض بهدوء في الليل البارد... آخر الخريف وبداية الشتاء... تسير في الشقة المظلمة للمطبخ... تقف به و هي تشعر ببعض البرودة رغم بجامتها القطنية بأكمامها الطويلة... وقفت بشرود لثوان في المطبخ تطرد الأفكار الغير مرغوب بها... أفكار ستتعارض مع أحلامها و خططها في الحياة... ثم بلا إرادة بدأت تخرج بعض المكونات... تعلم أن الساعة تجاوزت الثانية فجرا، لكنها لم تهتم...
((يبدو أنها عادة عندك... لكن نصيحة من شخص حيادي... حاولي أن تقاوميها لأنها قد تسرق منك الكثير)).
ابتلعت ريقها و هي تحاول ألا تشرد مع تأملها لما أخرجته على المنضدة في المطبخ...
بيض، كاكاو، فانيلا سائلة، خميرة حلويات، دقيق، و زبد مع زيت نباتي...
تخرج الخفاقة الكهربائية و تبدأ بإعداد الكعكة...
((الدبوس اداة آنستي... أما المجرم الحقيقي فهو أنت!))
تجاهلت بقوة النبرة التي لا تردي كيف تصفها... نبرة فيها تملك و حق في القول... بقوة أكبر حاولت أن تخرجه من رأسها و هي تفصل باحتراف البياض عن الصفار و تعد باعتياد لكن بدقة أيضا خليط الكعك... تبتسم لحسن حظها و هي تجد في الثلاجة برتقال حديث النمو...
((من فعل بك هذا؟؟... من تجرأ و مد يده عليك؟؟... كيف... كيف يمكن لشخص أن يؤذيك؟؟... كيف تسكتين له ليفعل بك ذلك؟؟!))
التوتر يعاود السكنى فيها... لِم يسأل؟... لِم يهتم؟... ثم كيف يظن أنه يحق له أن يتدخل من الأصل؟... أغلقت عينيها لثوان قبل أن تفتحهما تحدق بحبة البرتقال متوسطة الحجم بيدها... هل حقا كما قال أنها لا تغويه، و أنه فقط يكره العنف ضد النساء... نبرته كانت مثل نبرة محسن عندما وجدها مرة تبكي من ولد ضربها و هي في الاعدادية، بعدما صدت معاكسته الحمقاء... يومها غاب الولد عن المدرسة يومين و هي نقلت لمدرسة للبنات فقط قبل أن تعرف ما حل به!!
نعم هذا ما شعرته من غضب مجنون في حروفه... غضب بري حقيقي...
((للمرة الأخيرة... و قبل أن أتدخل بكل ثقلي، و أعرف وحدي... و ثقي أنني قادر على المعرفة...))
القوة... هنا شعرت بالقوة... و كأنه نسر بجناح قادر على احتوائها من كل انواء العالم... يا إلهي ما الذي يريده منها هذا المجنون!
ابتلعت ريقها و هي تستعيذ بالله من الشيطان و تفكر أنه فقط يكره العنف... لا يريد منها أي شيء... تبشر قشرة البرتقال بعنف حتى كادت أن تدمي يدها و هي تؤكد ذلك على نفسها... لا يريد منها أي شيء... فقط فكري بعملك و علمك و ستنجين!... أخيرا توقفت و هي تنهي خفق المزيج ثم تخرج قالب كبير خاص بالكعك و أخذت تسكبه... تضعه بالفرن المشتعل مع مؤقت للوقت... تجلس على كرسي أمام الفرن تسترق بعض الدفئ و هي تتذكر كيف كانت تلتصق به في الأعياد الشتوية وقت اعداد كعك العيد بالتمر...
بسمة الحنين تكومت بأسى و هي تتذكر والدها الذي كان دوما يجدها منكمشة في الشتاء في المطبخ تسترق الدفئ من الموقد أو الفرن... يخرجها من هناك و هو يلوم والدتها على اهمالها و يحذرها –لبنى- بإصبع يهتز بقوة أنها يوما ما ستحترق.. حسنا مرت عشرة أعوام و لم تحترق... مرت عشرة أعوام و الدفئ من الفرن لم يعد كافي... لأن وجوده هو كان الكافي... كان الدفء من تواجده حولهم...
دوما كان يخبرها أنها ابنته الذهبية الذكية...
يخبرها بثقة أنها ستنال يوما ما جائزة نوبل في العلوم...
دموعها تسيل بشوق له... قبل يومين كانت الذكرى السنوية لوفاته... لم تصنع أي شيء لتوزعه عن روحه كما اعتادت... لقد نسيت!
لأول مرة تنسى ذلك... حزنها على حالها، أبى أن يقلب في سجل ذكرياتها لتستعيد ذكرى وفاته...
لذلك و هي بالطريق تصدقت لأجله بكل ما في محفظتها لأسرة تعلم أنها معوزة...
يا رب حرم جسده على النار!
انتبهت على رنين الفرن ينبهها لانتهاء الوقت... دون ان تختبر النضج أطفأت الفرن و تركت القالب به قليلا قبل أن تخرجه...غدا ستزينها بشكل جيد...
"الله يرحمه... لا أظن أن أحدا من الممكن أن ينال مكانته!"
قفزت بقوة مع الصوت الذي خرج من خلفها و محسن يبرز من ظلام الصالة... يدها على صدرها و هي تتنفس بسرعة و تبسمل و تحوقل و تستغفر...
و بآخر لحظة أحكمت اغلاق فمها كي لا تعاتبه... لا تريد أن تكلمه، لا تريد أن تنظر إليه... خيبته تكفيها لعمرين مع عمرها الفتي!
أما هو فسحب كرسيها ليجلس مكانها على المائدة البسيطة في المطبخ، قبل أن يكمل دون انتظار الرد منها، و كأنه يعلم أنه كثير عليه...
"كان أبي شخص مميز... لا أظن أنني أصلح لأكون مكانه أليس كذلك؟؟..."
لم ترد عليه مرة أخرى، و إن ظلت واقفة مكانها، ناسية كعكتها التي تبرد مع برود الفرن، و بالمقابل لم تجد فيها قلة تهذيب لتتركه يتحدث مع نفسه و تتجاهله... رغم كل شيء هذا محسن!
"حاولت بالبدء أن أكون مثله... في كل خطوة اخطوها أتذكره، و أفكر كيف كان سيفعل... في كل أمر أفكر بطريقته... ثم.........."
ابتلعت ريقها بتوتر و هي تحاول أن تتذكر محسن، طيب حنون كوالدها فلم تجد تلك الذكرى!
كان فقط مهموم مشغول و كتفاه متهدلان بثقل الأمانة التي سقطت عليه مرة واحدة!
"ثم اكتشفت أن عالمي يختلف عن عالم أبي... اكتشفت أن السواد الذي يحيط بنا لم يكن موجود مثله عند أبي... الانحراف هو الشيء المعتاد، حتى أصبح الانسان السوي يعتبر شاذ في مجتمعنا!"
لم ترد أيضا على كلماته... كلٌ يرى العالم بطريقته... هي ترى أن الدنيا متوازنة كما كانت منذ فجر الخليقة... فقط السيء علا صوته بعض الشيء، و بات يظهر بعريه بفجاجة وسط تيار الحياة، فاستحى الحُسن و تخفى!!
"لذلك خفت عليكم... خفت أن تجرفكم تيار من تلك التيارات المريعة... خفت من أن تبتلعكم دوامة من تلك الدوامات التي حولنا... صدقيني أختي أن النهر المستقر الذي كان أبي يبحر به قد تغير... كله مصائد و مكائد... لم يعد السير الصحيح موجود... فقط دوامات و تيارات و صخور مدببة مهلكة!"
شعرت بتوتر مع كلماته، توتر و فورة غضب... لم كل هذا التشاؤم؟... هو يتكلم عن أفرع من النهر الرئيسي.. لكن النهر المستقر مازال موجود... ربما أصبح ضحلا ضيقا، لكنه مازال موجود، و من يريد السير فيه فلن يضل الطريق!
"لبنى، أعلم أن أي شيء أقوله أو أفعله الآن لن يسترجع ما قلته لك... أعلم أنني جرحتك بلا رحمة... أعلم أنني طعنت فيك بلا عقل أو وعي... لكن ذلك حدث لأنني خائف عليك... أقسم أنني خائف عليك".
دون أن تسيطر عليها خرجت كالرصاصة من فمها...
"خائف عليّ، أم خائف مني!"
رفع عينيه إليها متفاجئاً و هي مازالت واقفة تستند إلى الحاجز الرخامي للحوض، و نظراتهم تلتقي بعتب، قبل ان تحرمه من هذا التواصل....
"أنت لم تخف عليّ يوما محسن... لو خفت عليّ أخي لكنت فكرت بوقع كلماتك عليّ... فقط قليل من التفكير و ترى أنني سأنال وصمة لا تختفي من اتهاماتك... بربك لقد شككت بشرفي و عرضي... شككت بكل ما يميز الأنثى... و بالذات خرج منك... من أخي الذي ظننته يوما سندي... صدقني بعد هذا لا يوجد كلام أخي..." ثم هزت رأسها بخيبة منه أوجعته بشكل قاتل بينما تكمل بصوت هادئ رغم كل ما بها...
"أبدا لم تخف علي أنا و أختيّ... خفت منا... خفت من عار يأتيك منا... كل يوم تخطط ما سيحدث لو فعلنا كذا أو دمرناك بكذا... دعك مني فأنا بكل تأكيد أستحق ما فعلته بي لتمردي... لكن لو كنت خفت على سلام ما كان هذا حالها... لقد بات عندها رهاب من الخروج من الدار فقط لترضيك... لو كنت تخاف على ميار لما تركتها ترى اتهاماتك المشينة لأختها، و تعيش هذا الوجع المؤلم..."
كانت تتحدث ببرود و رتابة و عينيها على الثلاجة العتيقة المزينة بقطع فاكهة مغناطيسية...
"لا محسن... لقد اشتريت راحتك بأن تتركنا على ضفة النهر... لا نعبره... أردتنا أن ننظر للحياة من بعيد... لا نعيشها فقط ننظر إليها من بعيد... تضع يدك على أعييننا و تضيق منظور رؤيتنا، ثم توجه رأسنا للأفرع السيئة... تخبرنا أن هذا مصير من يريد ان يعيش... فقط ابقوا هنا حتى تفنوا و أرتاح منكم... لا محسن أنت لم تخف علينا، أبدا لم تفعل..."
حل صمت بينهم كئيب و هو يدرك صدق كلماتها... نعم لم يخف عليهم قدر خوفه منهم... لم يخف عليهم أن يموتوا و هم أحياء...
لو بيده لكان أغلق عليهم في صومعة و انتهى الأمر!
أذان الفجر يصدح من المسجد القريب، قطع صمتهما الطويل، لتمط شفتيها بلا تعبير و كأنها فعلت أنهكت منه قبل أن تهز رأسها بلا اهتمام و هي تتحرك لتخرج...
"لا أدري ماذا أقول لك محسن... لكنني دوما سأدعو الله أن يهديك... ربما واحدة منا تستنقذ مما تفعله بنا... بعد كل شيء... لقد بقيت معنا أيضا على نفس الضفة، و حرمت نفسك من الحياة!"
و تركته لتصلي الفجر و تفعل كما قالت...
الله يهديك يا أخي!
***
من الجميل حقا أن تكون تنتظر شيء...
هو ينتظر هذه الاجازة المفاجئة التي رتبها لهما... بالبدء اتفق مع جامعتها لكي تحصل على أسبوع اجازة...
إن كان هنالك فن يميزه فهو الاقناع... يمكنه أن يقنعك أن البطيخ ليمون حامض، بل و ستشعر بلوذعة في فمك منه!
ابتسم و هو يصفر بمزاج خفيف... لقد اتفق مع زوجة عمها على استقبال يزن... خصوصا أن ابنها السمج قد عاد لسفره المستمر للأبد... ربما لن يظهر إلا بعد عشرين عام... لكنه رغم كل شيء، أخبرها بشكل مباشر مدعوم بنظرات باردة أن الكلمات التي قيلت لزوجته لا يجب ان تكرر، إن أرادوا أن يستمر الربط بينهم... و بينما شفقة توالدت فيه و هو يرى المرأة مصدومة بخجل أنه عرف كلماتها العفوية مع زوجته، وجد نفسه يتجاوز عن ذلك و يخبرها برغبته بمفاجئة هدى بإجازة لهم وحدهم... و خبر طلبهم رعاية يزن ألجمها تماما خصوصا بعد صدمتها بعد عتابه البارد!
لو بيده لم يكن ليمنحه لهم، لكنهم الخيار الوحيد، فلا يظن أن أمه ستمنح حفيدها أكثر مما منحت ابنها، و بكل تأكيد والده لا يعرف اسم ابنه من الأصل، و لم يبقى إلا زياد. و هو متأكد أنه سيحب –مع زوجته- أن يهتم بابنه، إلا أن هدى ستلغي كل شيء و لن تترك الولد معه!
لذلك بنفس التسامح و التسامي قرر أن يتساهل مع أقاربها الوحيدين الشبه طبيعيين!!
المهم أنه بعدما سوى هذه المسألة العاجلة و تأكد أن يعرفوا كم هي مهمة زوجته له، و لن يسمح بأي تفريق بينهم، بحث بمشقة عن فكرة مميزة للعطلة... و عندما وجد ما سيسعد زوجته شعر بشعور جيد أنه يسير في الطريق الصحيح... يحفر بدقة و ثبات أرضا ثابتة لاستقرار و رسوخ زواجه...
أدخل سيارته في المرآب و هو يحاول ان يداري مشاعره و هو لم يكن أمر صعب عليه طبعا... غدا الأسبوع الذهبي سيبدأ...
غدا سيحصلا على شهر عسل جديد...
فورة مشاعر تسلقته رغم واجهته الهادئة... بالأمس كانت هدى منطلقة تماما معه...
مرات قليله تمنح بهذه الطريقة... و عندما تفعل يكون الوضع مجنون لكلاهما، و كأنها تملك مفتاحه مع مفتاحها...
ينفجران ببرية و لا حواجز و لا أي عوائق و بكل تأكيد لا تظاهر...
الحرارة تتوزع في جسده و هو يعد نفسه بليلة مثلها... لكنها ستكون مقدمة لليال أخرى، و ربما نهارات أيضا... فلن تكون الإجازة اجازة إن لم يستغلها بالكامل!
يدخل البيت مسرعا للأعلى، ليبدل ثيابه و يبحث بعدها عن الأعزين عليه... لكنه توقف فجأة و فكرة مخبولة لا علاقة لها به تبرز في ذهنه... لم كل مرة يفعل هذا... يعود من العمل، ثم يصعد يبدل ثيابه، بعدها يلاعب يزن إلى أن تعد زوجته المائدة... لم كل يوم نفس الرتم... منذ خمس سنوات و هما بنفس الطريقة... عينه اتجهت لمدخل جانبي... و بفورة مشابهة للفورات التي بدأت تغرقه وجد أنه قرر أن يذهب للمطبخ ليراها هنالك... ماذا لو كسر روتينه و ذهب للمطبخ يبحث عنها... ماذا لو قبلها على مؤخرة عنقها الطويل بشكل مفاجئ و هي تحرك شاردة شيء ما في المقلاة... ماذا لو أداراها بشكل مفاجئ، و احتضنها بثيابها المشبعة بروائح الطهي... ماذا لو شعر بها كامرأة مجنونة متقلبة بفكرته المجنونة الطارئة!... ماذا لو فعل؟!... الشيء الجامح الذي لم يفعله من قبل اشتعل به بشكل أشعره أنه مراهق اخرق... هو شعر فعلا بالخرق الشديد و هو يقف بالمطبخ الفارغ حتى من نهاوند... هبوط عاطفي تراكم داخله، و هو يصعد للأعلى... و قبل أن يدفع الباب المنفرج قليلا توقف بسكون و هو يراها جالسة أمام منضدة الزينة تحدق بملامحها بتساؤل... بحيرة... باستغراب... و ألم...
تتأمل المرآة و كأنها تستنطقها... ترجوها الراحة... دمعة تسيل على صفحة خدها دون أن تدري، ليعلم أنها ترى عبر المرآة، مرآة أخرى تعكس شيء مخفي تحت ركام روحها...
كانت لحظة عارية من كل التظاهر...
عارية بفجور كامل...
عارية بطريقة لا يليق به أن يتلصص بها عليها...
شعور قاتم مر عبره... هل تتسائل... هل تتراجع... هل......
أغلق عينيه و هو يحاول أن يستعيد شعوره بالانسجام عبر ما مرا به سابقا، لا يمكن أن تعود لأي ما كانت تريد العودة إليه... هو سيسرقها... سيغمرها... سيجرفها... سيمنعها أن تفكر مجرد تفكير بالجنون السابق...
ذلك التضعضع الذي يعيشه يجب أن يتلاشى و يثق برسوخ مكان قدميه و قدرته على انجاح هذا الزواج!
لذلك تراجع خطوتين، قبل أن يقتحم الغرفة بقوة جعلتها تنتفض و هي تلتفت إليه بضياع... ثوان ثم كما توقع اختفى كل شيء وراء واجهة مهذبة أنيقة لا شائبة بها...
حسنا سيدتي... أنت تلاعبين ملك التظاهر...
بل ربما مخترعه الأصلي!
لذلك فاجئها ببسمة كبيرة و هو يقترب منها جاذبا إياها من خصرها بتدليل ذكوري يثيرها بالعادة، لكنها منحته تفاعلا، هو نظرات مستغربة و كأنه يعاني من تبدل الشخصية...
"هل تعلمين... اشتقت إليك!"
كان رده الأول على تساؤل عينيها الحذر، ثم قربها أكثر ليتحول القرب لاحتضان دافئ محبب...
"هذا رد على استغرابك... و امممممم في الحقيقة... و لأول مرة بحياتي العملية المديدة... لأول مرة... أخسر قضية و أخرج بلا مشاعر سلبية من ذلك!"
رفعت عينيه لعينيه و هي تضيقها بتساؤل قبل أن يترجم عبر لسانها...
"أول مرة تخسر قضية... أم تخرج بلا مشاعر سلبية من ذلك... لأنني في كلا الحالتين سأكون مصدومة لأصدق!"
يده تمتد تعابث بعض التجعيدات التي تكونت مع تضيق عينيها الجميلة... لا يدري لم أحب أن تفعل ما تريد بوجهها... يظن أن آخر هموم زوجته هو التجاعيد الناتجة عن العبوس أو أي انفعال حقيقي آخر!
"في الحقيقة و رغم تقديرك الأكثر من عالي لي، و ثقتك المذهلة بقدراتي... إلا أنني أعلن بفخر انني خسرت بعض القضايا سابقا".
هذه المرة عقدت حاجبيها بلا تصديق جعله يكاد يضحك... هل حقا تظنه قادر على أن يكون سوبر محامي...
شيء مذهل أن تجد من يشعر تجاهه بمثل هذه الثقة... شعور أكثر من مذهل ملؤه قبل ان تنطق...
"ظننتك فعلا لم تخسر أية قضية... أنت لا تملك أي حس في تقبل الخسارة!"
الشعور الجميل انسحب بحذر بينما هي تكمل بتلقائية غاظته... الآن لم يرد التلقائية... تهذيبها أفضل بكثير!
"أنت لا تدع أي عائق يقف في طريقك في سبيل نجاحك... أحيانا أشعر أنك......"
هزت رأسها و كتفيها و كأنها تبحث عن كلمة ملائمة...
"أشعر أنك تلاحق النجاح بلا كلل... و كأنك لو تأخرت عنه بخطوة واحدة سوف تجد نفسك في القاع مع الآخرين... و هذا يذكرني بشخص آخر!"
توتر ملموس نقلته لها عضلاته التي تلامسها... التوتر كان نتاج غبائها...
حسنا هي غبية... يعلم الله كم هي غبية حينما تقارنه مع أغيد و قد اعتبره علاء كأنه لم يكن... ببساطة يقفل الموضوع ما ان يفتح بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى أن انفجر مرة بقوة، و هو يخبرها بطريقة واضحة أن أغيد و وجوده المفاجئ المستغل المتسلق في حياته ليس من شأنها... و أن حلمها بتكوين علاقة حمقاء بينه و بين شقيقه هو فكرة قمة بالغباء لا تنبع إلا من حالمة اخرى سخيفة!
وعندها كبرياؤها انتصر و تجاهلت اسم أخيه من حياتهم، و هو شيء لم يكن صعب لأن الآخر لم يتعب أصلا ليكون من ضمن الأسرة.
انسحاب... توقعته... واجهة هادئة... توقعها...
نظرات مدققة... توقعتها و إن خافت منها... ارتعبت منها... لا تريده أن يعرف ما تداريه بهذا الحوار السخيف...
الأشياء المدفونة تبعث من التراب...
البقايا تتجمع و ترسم من جديد...
الآن هي تشعر بالطفو المجنون... لا ركائز هنا... لذلك هي تهاجم الأساس المتضعضع بحياتها و المسمى زوجها!
هي تعلم انه يعلم ذلك... موهبة أم فراسة أم طول عشرة لكنها رأت في عينيه تفهم لها، لذلك عاد لها مرة أخرى تاركا عفويته المزعومة خارج هذه اللعبة، و بمحاولة بائسة لصنع ود لا يدر كلاهما كيف هو هش وجد نفسه يجذبها مرة أخرى... يحدق بعينيها لثوان و قد رافع ذقنها باصبعه...
"يوما ما..."
ارتخى التوتر أخيرا في عضلاتها وهي تسمعه يقول...
"يوما ما سأجد طريقة لأفهم كيف تفكرين... و هذا لن يكون بعيد... و بما أن ايمانك بي مطلق، حتى و إن كان ايمان باللا نزاهة في سبيل النجاح... المهم سترين أنني قريبا سافهم كل تعرجاتك... كل مراكز عقلك... سأفهمك هدى... و وقتها يمكنني أن أفهم لم هذا الفم المثير يخرج الأسوأ في أفضل الأوقات!"
ثم -و كأنه لم يصنع بها رعبا مجنون من تحديه المرعب، تركها ليبدل ثيابه قبل أن يبحث عن يزن، ليداعبه بمرح حقيقي أو عرضي، بينما تسبقه للأسفل لتجهز المائدة لوجبتهم الأساسية... وقفت أمام رخام المطبخ.. سلامياتها تضغط بقوة عليه و كأنها تراهن على جودته... هل سيعلم؟؟... هل سيرضى؟... هل سيفهم؟...
لا تعلم، لكنها تعلم أن الرسالة التي على هاتفها يجب أن تمحى، قبل أن تتلصص عينيه إليها.
***
تغني بدلال اغنيه قديمة تركية كانت تسمع أمها تغنيها في صغرها...
رغم أن أمها لم تر تركيا إلا بعدما كبرت، إلا أنها ما توقفت عن ذكر أصولها المميزة... أميرة عثمانية!
كانت أمها بشعر بني تتخلله خصل عسلية... لا يشبه شعر لين الأسود بشيء.. لكنها أورثتها القوام الجيد... عظام الوجنتين المميزة و خط الفك المذهل، و الشعر الكثيف الذي ينمو للأبد، بالاضافة لهيكل عظمي ستموت آلاف العارضات للحصول عليه باتساع الكتفين و ارتقاء العنق و التناسق بين طول الذراعين مع الساقين مع العمود الفقري.
ابتسمت و هي تعابث خصلات شعرها التي بناء على رغبات أميرتها قد قصرتها في قصة حديثة لمنتصف ظهرها، إلا أنها لم توافق على أن تصبغها...
"الشعر الأسود لا يصبغ حلوتي... فقط الآخرون يحاولون دون جدوى أن يصلوا لهذا اللون..."
منذ عامين تخففت الحراسة الداخلية المشددة، و باتت فقط على المداخل و المخارج... بركة السباحة كما أخبرها العم حاتم باتت منطقة ممنوعة... يمكنها أن تسبح بها براحتها كما ربيبتها...
ابنتها...
اختها...
كل شيء...
لمى تلك الطفلة التي لم ترى في الطبيعة شيء اجمل منها!
اتسعت بسمتها و هي ترى الفتاة ترشها ببعض المياه المكلورة في دعوة لتقفز معها في البركة...
لم لا؟؟
الجو جميل... آخر الخريف الجميل، منحهم جوا متقلب، لكنه اليوم كان دافئ لطيف... بالاضافة للنخيل الذي يحيط بالمكان ليجعله منعزل... و المسبح شبه داخلي...
تحررت من مئزرها ثم قفزت بثياب السباحة في البركة...
طافت قليلا و هي تعابث الطفلة و تتذكر المكالمة المرئية مع طبيبتها في باريس...
يجب أن لا تعطي نفسك الفرصة لتحزني... لتغضبي... لتنفعلي خارج الاطار...
دائما يوجد حل...
لا تقلقي...
لم هي قلقة؟؟
لأن الأخبار التي انتشرت في محيطهم وصلتها أيضا...
لقد عاد...
عاد للوطن...
بالأمس سألت بقلق و حذر العم حاتم على العشاء...
لكنه لم يزد سوى أنه لم يراه أو يقابله بعد!
أين هو..
لم لم يأت إليهم؟؟
هل يطبخ لشيء ما...
ربما مرت أربعة أعوام و الخامس سينصرم و لم تسمع منه، إلا أنها تدرك أن في دماءه شيء اغريقي لكي لا ينسى و لا يغفر!
نعم مر وقت طويل منذ أن استلمت الطفلة المنبوذة التي لا أخت أو أب يهتمون بها...
و بتفاني كرست كلها لها، و لو أرادت لاستعارت بعضا من الآخرين!
ابتسامة مرة ارتسمت على شفتيها و هي تعلم أنها دفعت و ستظل تدفع ضريبة ثقيلة على هذه النعمة...
لم تتخيل أنها ستحب شخص لم تراه، إلا عندما عرفت أن زياد أصبح أب للمرة الأولى...
يومها بكت كثيرا بفخر و سعادة لأجله... و كما أرادت حصلت على صورة له من احدى الخادمات هناك...
و من ثم باتت تحصل على مئات الصور له في كل مراحل نموه...
يا له من طفل ساحر...
"و يمكننا أن نطلب من أخيك أن يعطينا ولد من أولاده!"
خرجت الكلمة من عقلها بسخرية و هي تتذكر حلول مهاب العبقرية لعقمها... يوم كان يخطب ودها... بل يحاول ان يفعل!
دموعها باتت تنزل بسخاء لما يهم أو لا يهم...
و الدليل على ذلك هذه الدمعة المتلصصة و التي تسيل دون سبب منطقي!
"لا تحبسي انفعالاتك... اطلقيها أول بأول... لا تتركيها تتعاظم و تتكاثر على سلامك الروحي..."
و الآن هي مستعدة ان تدفع كامل عمرها لترى طفل زياد الثاني ما أن يولد...
نعم مستعدة أن تضحي بكل شيء لأجل هذه اللحظة...
رفعت عينها لأعلى لترى العم حاتم يقف في شرفته يتأملهم بعادة لم يتوقف عنها منذ أن دخلت داره...
الرجل أوقف عداد الزمن و بات يعيش مع شبح زوجته الراحلة...
ابنه هجره و ابنة زوجته تأتيه بزيارات متقطعة كل أسبوع أو أسبوعين مرة...
و الآن مع ثقل حملها لها أكثر من ثمانية عشر يوما لم تأت...
هذا الرجل يعيش حداده الأبدي و كأنه لا يجد في الكون ما يصحح خسارة زوجته إلا بهذا الحزن الدائم...
صامت كقبر... حتى لمى الصاخبة المنفتحة مع الجميع، تصاب بمرض الهدوء في حضوره... ينظر إليها بحب عن بعد لكنه يخشى أن يقترب أكثر... لا يريدها أن تتعلق برجل يتمنى الموت في كل لحظة من عمره... للأمانة هو قد شاخ كثيرا عن آخر مرة رأته فيها برفقة مهاب عندما قررت أن تقتحم حياتهما...
مطت شفتيها بأسف و تفكيرها يحيد ناحية..............
"لقد فقدت لياقتك يا لين!"
انتبهت على رشقة ماء ضخمة من لمى و هي تضحك عليها ساخرة...
ضيقت عينيها بشر و هي تقول بصوت كفحيح المرحوم جو...
"أنت تظنين أنك يا آنسة لمى سوف تهزمينني... انتظري"
و انقضت عليها بطريقة جعلت الطفلة تصرخ بمرح و استمرتا بالتراشق و اللعب بالمياه و قد نسيت فعلا أن لا شيء يضايقها...
أخيرا خرجتا من الماء الذي برد تماما و كلتهما تضحك و هي تشير للأخرى باتهام و تدعي أنها غلبت الأخرى...
"توقفي لين إنك تخنقيني لا تجففيني... هذه ليست منشفة بل مشنقة!"
"حقا أيتها المتحذلقة الفيلسوفة... سترين بعد لحظات كيف ستكون المشنقة الحقيقـ..............."
لم تكمل عبارتها و ظل يتقدم عكس الشمس ناحيتهم... ظل من بين كل ظلال الأرض هي قادرة على التعرف عليه بعينين مغلقة!
قلبها يرتجف بين أضلعها بينما برودة تحتل جسدها عكس شمس العصر القوية...
دون وعي يدها ترتخي عن لمى التي تلفها بالمنشفة و هي تقف بطء و جسدها كله بات يرتجف بطريقة لم تعهدها من قبل...
تنظر إليه و هو يسير ناحيتهم... الشمس تكشف ملامحه بالتدريج...
لم يكن هو...
فقط قلبها التقط بعضاً من نبضاته و عرفه،
لكن عينها غفلت عنه...
لم يكن مهاب...
كان شخص آخر!
بلحية كثيفة شقراء تدلت حتى آخر عنقه...
شعره أيضا كان قد طال بمنظر بربري يليق برجل ما قبل الحضارة!
عيونه الخضر زادت لمعتها بقسوة وسط بشرة دبغتها الشمس لتصبح سمراء محمرة...
و أخيرا أثر جرح غائر في النصف الأيمن من وجهه، يمتد من شفته إلى آخر ذقنه...
بوجل رفعت عينيها لتلتقي بنظرات مشتعلة من عينيه...
نظرات حارقة لم ترها من قبل، لتدرك متأخرة ما حدث...
لقد عاد طيف من زوجها و ترك كل نفسه هناك!
***
نهاية الفصل

نوعا مايبدو الجزء الثانى من سلسلة حكايا فى سطور لكاتبة إيمان نصارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن