١

46 2 0
                                    

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

اختبئ يا يزيد".
صرخت بها نوارة، فانتفضت في مكانى، وتحفزت كل عضلة في جسدي، وتحركت
بسرعة برغم إصابتي ووماي النازفة، وتواريت بمساعدتها خلف الجدار الإسمنتي
المصقول الذي تتوارى بجسدها الدقيق خلفه.
وكتمت بصعوبة صرخة ألم كادت أن تغادر حلقي، بعد أن قبضت نوارة على
ذراعي بقوة شديدة آلمتني لتقربني من موقعها أكثر؛ وذلك عندما شق الخوار
الوحشي الهمجي الهواء الثقيل من حولنا، فتردد صداه أسفل تلك القبة الحيوية
العازلة، التي تحيط بنا، كإحاطة السوار بالمعصم.
تلك القبة اللعينة التي حصرت تحركاتنا داخلها، فأصبحنا بداخل سجن عملاق
لا يتجاوز قطره كيلومترين، لا مخرج منه ولا مهرب.
والأدهى أنها عزلتنا عن العالم الخارجي الذي تجسدنا فيه، فصرنا كالشاة التي
تنتظر دورها في الذبح.
وكان هذا محطما للأعصاب!
لأنه يعني أن قتالنا، وركضنا المستمر لا جدوى منه!
لأننا في النهاية ندور في حلقات مفرغة لا تقود إلا لفخ مميت، سينتهي لا
محالة بين أنياب ذلك المسخ العملاق الشبيه بالحرباء، الذي لم يتوقف لحظة عن
مطاردتنا بعد أن ألقانا حظنا العسر في طريقه.
حاولت أن أطمئن نوارة، رغم ما أشعر به من ضعف، وتشوش في الرؤية،
نتيجة ذلك السم العضوي الذي حقنني به ذلك المسخ، ولكن عاد الخوار الرهيب
هذه المرة أعلى وأقرب، ليفسد محاولتي.
لذا عادت نوارة وقبضت على يدي بقوة مضاعفة وكأنها تبحث عن الأمان
بقري، مما جعلني أزوم من الألم، وقد توترت عضلات ساقي المصابة بشدة،
فهمست لنوارة قائلا:
- اهدي يا نوارة سيكون كل شيء على ما يرام.. وخففي من ضغط قبضتك
على ذراعي، لا تنسي فارق القوة البدنية بيننا".
خففت نوارة قبضتها عن ذراعي على الفور، وإن لم تتركها، وهي تقول:
"آسفة يا يزيد.. لم أقصد أن ...".
وهنا قاطعها صوت الخوار الذي صار أكثر قوة وإفزاعا، فابتلعت لسانها، ولم
تكمل جملتها، وشعرت أنا بالعجز أكثر، وصدى الصوت يوحي بأن الخوار يقترب
من موقعنا أكثر..
وتمنيت ساعتها لو كنت أصما، فلا أسمع ذلك الصوت الكريه المفزع، الذي
يهددنا مواجهة دموية جديدة، ومعاناة حتمية، لسنا مستعدين أو قادرين على
خوضها بحالتنا هذه.
الخوار يزداد قربا.. أتحرك بعصبية فيؤلمني جسدي.. تتوتر نوارة أكثر، وهي
تلتصق ي، وقد ظهر على وجهها الإرهاق والتعب، لتقول بصوت طفولي منزعج،
وهي تتأمل جسدي النازف في هلع وعجز كاملين:

"إننا لم نلتقط أنفاسنا بعد.. إننا نركض منذ ساعة كاملة، وأنت أيها المسكين
مصاب بشدة، وتنزف كصنبور حديقة، ولن تستطع الصمود أكثر مع ما فقدته من
دماء".
لم يكن عندي القدرة أو الطاقة لأرد عليها، أو على تشبيهاتها الساذجة، فأخذت
أجز على أسناني من الألم، وأنا أمسح المكان ببصري الواهن من زاوية ضيقة لا
تكشف موقعي؛ محاولا تحديد مكان انبعاث ذلك الخوار المفزع؛ مهيئا نفسي
لمواجهة عاصفة لن تنتهي على خير بأي حال من الأحوال.
المكان على مدى البصر خال، وبرغم الخوار المتصاعد، م يظهر أثر بعد للحرباء
المشوهة التي تطاردنا..
وهو شيء جيد مؤقتا..
وإن كان لا ينفي خطره أو قربه.
إن الخوار في حد ذاته، إعلان للموت الوشيك، لا بمكن تجاهله أو التقليل من
شأنه.
إننا في موقف لا نحسد عليه، فأنا أحتضر ولا أريد أن أظهر هذا..
أحاول إخفاء ضعفي عن نوارة، فأفشل فشلا ذريع..
أنا لست بقوتها البدنية، كما أن عقلي أمامها ككتاب مفتوح تقرأه بكل بساطة.
أشم رائحة الموت تتسرب إلى أنفي..
والحقيقة أن من هو في مثل حالتي، لو خضع لفحص طبي عاجل، لن يتورع
الأطباء عن وضعه في غرفة العناية المركزة، مع التشديد على المتابعة المستمرة..
ولكنه عناد الرجال خاصة عندما تتواجد نساؤهم في دائرة الخطر، فيتصرخون بكل
حماقة.
وهذا العناد هو الذي جعلني أحاول الوقوف على قدمي، متجاهلا عواء
عضلاتي التي تكاد تتمزق من المجهود الذي بذلته خلال الساعة الماضية، وعلى
مدار هذا اليوم الكئيب.
ولأنه ليس كل ما يتمناه المره يدركه، خذلتني قدماي، فعدت بمساعدة نوارة
لأسند ظهري إلى الجدار الإسمنتي المصقول دون أن أقوى على الحركة، أو العناد.
أبذل مجهودا مضنيا لأبدل من جلستي متجنبا أن تلتقي عيني بعين نوارة..
لا أرغب في المزيد من الشفقة أو الطاقة السلبية..
نوارة المتجهمة تتفهم ما أمر به، فتبدأ في تمزيق قميصي وصنع ضمادات بدائية
لا أعتقد أنها ناجحة.
وعندما هممت بتوجيهها إلى كيفية ربط الضمادة وعقدها، خطفت عيني
صاعقة من البرق الدموي، سطعت للحظات متخللة جدران القة العازلة النابضة
التي غربت عنها الشمس، والتي كانت تخفي بضيائها القوي المريح بعض وحشة
المكان..
برغم دقة الموقف كان المشهد فاتنا ومثيرا للرهبة في نفس الوقت، فنسيت كل
شيء عن الضمادات وجروحي ودماي النازفة، وطفقت أرمق تلك العروق الدموية
المتألقة التي ظهرت في جدران القبة، ومخاوف مبهمة تتسرب إلى روحي..
كانت تلك العروق الدموية تظهر لعيني كشرايين عملاقة متوهجة تكاد تنفجر
من كثرة ما يضخ بها من دماء، مما جعل عقلي غير المستوعب، يشطح في دوامة
عميقة من التساؤلات الغريبة، والمريبة، وغير المنطقية، فاستدرت مواجها نوارة
متسائلا:
- "أي جحيم ألقتنا إليه تلك الثغرة الشيطانية اللعينة؟".
نوارة لا تجيب، وتتابع ما يحدث بقلق، ولا تفارق عينيها القبة التي أصابها
الجنون، فاستطردت متسائلا:
"هل نحن على سطح كوكب جديد، أم بداخل معدة كائن حي عملاق،
وموتنا قادم؛ عندما تبدأ أنزيمات معدته في هضمنا؟"..
عينا نوارة تتابعان تلك التغيرات العنيفة، التي تجتاح جدران القبة الثائرة،
التي صارت لوحة من الجنون الكهرباي الدموي العاصف، ثم تسرح ببصرها
للحظة، قبل أن تقول بصوت موج بخوف الدنيا كلها؛
يا إلهي.. إنها تشبه إلى حد كبير جدران بطن وحش الموركا.. إنه كائن مخيف
وغير محبب في عالمي.. ولا يقتل فريسته، إلا بعد أن يعبث بها، ويدمرها على
المستويين النفسي، والبدني".
كان وصفا شنيعا، وموفقا، لم نكن بحاجة إليه في مثل هذا التوقيت الحرج، مع
قلة حيلتنا وجهلنا ما يدور حولنا..
وتمنيت ساعتها ألا يكون ظنها صحيحا، وأنه لم يتم التهامنا من قبل ذلك
المخلوق الوحشي المجهول، فقلت في يأس؛
"حتى عالمك يا نوارة، يحتوي على وحوش سادية ودموية وقاتلة، أي هول
آخر يختبئ لنا؟؟".
تشبثت بيدي، وهي تقول:
"إن عالمي يا يزيد جحيم.. جحيم لا قبل لأحد به إلا مخلوقاته".
هززت رأسي في يأس وقلت:
"جحيم أكثر مما نراه هنا؟".
هزت رأسها بالإيجاب دون أن تنطق بكلمة، فعدت أنا أتابع تلك العروق
الدموية البارقة، التى تحولت الآن إلى شبكة عملاقة متوهجة تلتهم مساحة القة
دون هوادة، في حين أخذت جدران القبة تنبض في قوة، وكأنها في حالة مخاض.
كانت القبة في هذه اللحظة تشبه إلى حد كبير، معدة كائن حي عملاق تترق
من الداخل.. ترى ماذا كان إحساس يونس في بطن الحوت؟
لو كان نفس الإحساس الذي يغتال أروحنا الآن، فلن تنقذنا إلا معجزة من
الخالق العظيم، لأننا لن نتحمل كل هذا الضغط النفسي المروع.
الأرض تهتز تحت أقدامنا، في سابقة هي الأولى من نوعها..
الهلع يرتسم على وجه نوارة..
لابد وأن الانهيار قادم .
القبة تنبض في قوة..
ومن وسط جحيم الأصوات والأضواء، دوى صوت الخوار المشئوم..
شوش الخوار هذه المرة، على صوث القبة النابض، الذي كان يدوي بصوت
أعلى وأعمق، كدوي مدافع عملاقة هادرة.
في حين أخذت العروق الدموية التي تتوهج كعشرات الشموس الصغيرة،
وتشبع الهواء من حولنا بكهرباء إستاتيكية عالية، جعلت شعر جسدي كله
ينتصب، وعمقت بداخلي إحساسا مرعبا، بأنها النهاية ..
تشققات هائلة تضرب كل مكان..
القبة تنتفض في عنف، وكأنها على وشك التمزق والانهيار.
"اللعنة.. أي هول جديد قادم؟".

#العفريت
#عمرو المنوفى
#كوالا

العفريت لعمرو المنوفى(مكتمله)Where stories live. Discover now