الفصل الأول

Start from the beginning
                                    

حياتهم هادئة تحمل الشعور بالراحة .. وأي مشكلة تصادفهم يستطيعون حلها بتعاونهم معاً.. عند افتتاح الورشة خلعت جدتها عقدها الذهبي ومنحتها لأبيها ورشيد أخرج ما كان يجمعه في أحدى عبواته الحديدة الصدئة التي يهو جمعها .
حياتهم كدأب أبيها على مقولة " عندما تواجهك مشكلة خذ الأمور ببساطة ، فلا تعقدها حتى تحل وتفرج .. وواجهها بكل ثقة ".
تحركت نحو الدرج الداخلي القائم نحو الأعلى صعدت على خلال الفتحة الضيقة تنادى بصوتها :" رشيد .. رشيد أين أنت يا ابن عمي عقل ".
لم يصلها صوته .. فلم تجد غير التحرك نحو غرفته .. التي نادراً ما تدخلها .. منذ أنتبدلت صورتهما فلم يعودا أطفال .. اكتسبت هي ملامح الأنوثة بكل ما تحمل من جمال .. ورشيد اكتسي بملامح رجولة فجة ضخمة شابا مفتول العضلات قوي البيان .. لكن مازال داخل عقله ذاك الطفل المعاق الصغير الباكي الذي لا يامن سوى باحضانها .. هذا شعورها تجاهه.. حمايته فريضة فرضتها على نفسها .
تجمدت على باب الغرفة الفسيحة فهي بحجم الطابق السفلي كاملاً مكوناتها قليلة مقابل غرفتها المكتظة بالأثاث .. ذات الترتيب المميز عكس غرفتها التي لا تمت للترتيب بصلة مقابل هذه شديدة الترتيب .. الفراش المعدني المطلي بالأبيض محبوك الملاءة ذات اللون الزيتوني ، وهذه الخزينة الخشبية البيضاء .. النوافذ الثلاثة الزيتونية اللون .. لا تذكر منذ متى بدل ألوان الغرفة هكذا ؟!! .. فقد فتحت أمام عقلها أبواب الذكرى أخر ذكرى واضحة داخل عقلها.. لأمها كانت في هذه الغرفة .. ربما ما ذكرها بالماضي عبواته المعدنية .

في الماضي **

زمجرة رجولية فجة صارت في صوته الغليظ في هذا سن الرابعة عشر المحير حتى لنفسه .. شاب وصل لأعتاب الشباب .. لكن صوته هو الوحيد الذي يؤكد هذا ..أما ما دون تلك الخشونة لا يمت للرجولة بصلة :" أجذبيني وطن .. اجذبيني .. وطن ".
نظرت إليه وإلى ضخامته المنبطحة على بطنه هكذا .. تحت الفراش الحديدي .. نادته الطفلة ذات السبع اعوام :" رشيد أنت كبير.. ضخم .. لن استطيع جذبك .. سيكسرظهري ".
زمجر من بين اسنانه .. وصار يدفع أصابع قدميه الحافية في الأرض الخشبية ، فصارت تصدر صريراً أشد إزعاجاً من بحة صوته الغليظ .. وضعت وتين كفيها على آذنيها .. ومالت راكعة .. تنظر إليه تحت الفراش حيث لا يظهر سوى ساقيه .. غمغمت بصوتها الضعيف :" كيف افعلها .. أنت كبير .. أنا أصغر منك رشيد .. انزلق للخارج ".
بدأ يميل ليحدق فيها بنظرته الغارقة في الإحباط .. أو العجز .. جعلها تهمهم :" أرفع قدميك قليلاً رشيد".
ابتسم لها ابتسامة ساحرة بشفتيه السخية هادراً بصوت قوي :" احبك وطن ".
وضعت جسدها الضئيل بين قدميه العارية من جواربه ..
حملت ساقيه التي انحسر عنها قماش بنطاله وضعتها تحت ابطيها ثم صدح صوتها بضيق :" شعر ساقيك يؤلم يدي كشوك يا رشيد ".
لم يهتم بما تقوله .. ليس عدم إهتمام .. بل عدم معرفة بما خارج محيطه العقلي الضيق .. غمغم زافراً متعجلاً :" وطن .. وطن .. هيا".
وراح يرفرف بساقيه فكأن يؤرجح وتين نفسها ..
تحكم لف ذراعيها النحيلة كحبلين رفيعين حول كاحليه الذين تهتزان بفقد صبر .. شابكت قبضتبها فبربعضهما بقوة ترجو أن تتمكن من سحبه .. دفعت قدميها في الأرض الخشبية .. بدأت تسحبه بكل ما تملك من قوة .. لكنها لم تحركه قيد أنملة .. ظلت تحاول وتحاول .. حتى سقطت على ظهرها .. لن تتركه بعنادها حتى يخرج من تحت الفراش الحديدي الأبيض .
خرج ثم جلس عاقداً ساقيه بفوضوية جعل أحدى ساقيه منفرجة أكثر من الأخرى التي جلس عليها .. بينما في يديه عبوة حديدية صدئة .. كانت على استلقائها .. تتنفس يصعوبة .. هامسة :" أولاً لابد أن تشكرني رشيد ".
اشار لها باصابعه لتحضر نحوه .. اعتدلت .. ثم زحفت نحوه في ثوبها الوردي القصير بورداته المطرزة على حافته :" احضرت صندوقك يا رشيد .. ما به .. ما الذي تريدني أن أراه ".
فتح غطائه المستدير الضيق ثم وضع يده داخله .. جلب نقود ورقية وعملات معدنية .. بالإضافة لبعض المسامير .. أخرج صور وأوراق وضعهم جنباً بلا أدنى إهتمام .. جلست القرفصاء أمامه .. ترى سر إهتمامه بهذه العلبة العادية الصدئة :" هل هذه الإشياء هي محتويات الصندوق .. من إصرارك ظننته هام جداً.. تخيلت به كنز ".
حرك رأسه بنعم .. رافعاً حاجبيه باثارة وشغف .. صار يبعثر باقي محتويات العبوة التي قلبها رأساً على عقب حتى يخرج ما بها من خلال فتحتها المستديرة الضيقة .. سقطت صورة مقلوبة على الأرض الخشبية بينهما مدت يدها تأخذها ثم ابتسمت عندما شاهدت صورتها وهي صغيرة في عمر العامين يحملها رشيد على كتفيه وتتمسك اصابعها بشعره .. لم يتألم منها .. فقط تلك الإبتسامة تملأ عينيه وفمه ابتسامة تجعلها تريد تنفيذ كل ما يحتاج إليه .. ابتسامة خاصة بها فقط تمتمت وتين في سعادة :" هذه أنا .. وأنت رشيد .. لم أرى هذه الصورة من قبل .. سأخذها ".
زمجر من بين أسنانه كعادته لو رفض شيئاً.. هجم على الصورة يخطفها منها قائلاً بطريقته الثقيلة :" وطن .. ملكي ".
تركتها له حتى لا تتمزق .. تعلم أن عقله لا ينمو كثيراً كما ينمو جسده .. هامسة بتبرير :" أردت فقط نسخة لي ".
ظل يربت على صورتهما التي ضمها لصدره ..هامساً بابتسامته الساحرة :" وطن .. وطن ".
عدلت من وضعها .. جلست أرضاً تمد ساقيها أمامها .. تقلب بيدها الصغيرة في باقي أشيائه .. حتى وجدت صورة لامرأة شابة شديدة الجمال غمغمت في استفسار مبهورة بتلك المرأة ذات الجمال الفريد :" من هذه؟!!".
اخذ الصورة منها ، فلم يدرك صاحبتها .. دفع ممتلكاته الصغيرة داخل العلبة .. تاركاً المال .. ، فالمسمار الصدء أو المعقوف أهم لديه .. وأهم من الجميع وطنه .
لملمت المال بما فيهم العملات المعدنية التي تدحرجت بعيداً. ثم وضعته في علبته .. انتهى بوضع صورتها على قمه ممتلكاته .. ثم دفع العبوة نحو مكانها القديم .. زاحفاً على بطنه حتى وضعها مكانها في ذات النقطة البعيدة .. ثم اعاد رص العبوات الكثيرة الثقيلة حولها وكأنه يخفيها عن الجميع .
كانت تميل خلفه لترى ما يفعله بفضول طفلة صغيرة .. ترجع للخلف فضربت قدماه وجهها .. ألم شديد نشب في عظام وجهها ، وعينيها .. صرخت فخرج صوتها خارج غرفته ممزقاً.. مرعباً.. جعل أمها في المطبخ أسفل الغرفة .. تهرول نحوها حاملة ملعقتها الخشبية التي كانت تستخدمها بالفعل في تقليب مربى التوت البري السوداء التي تعشقها وتين وريد قلبها .
كان صوتها يهرول للغرفة قبل قدميها :" وتين ما بك صغيرتي ؟!!".
لم تنطق الصغيرة ، فكل محاولاتها لفتح عينيها باءت بالفشل.. فما كان منها سوى التصرف الطفولي البريء الوحيد ، وهو اللجوء لوالدتها ، فأحضان الأمهات تشفي الجراح .. لم تدرك أنها بهذا التصرف ستؤجج النار المشتعلة تحت رماد قلب أمها .
تلقت أمها كتفيها براحتيها تفحص ملامحها .. وجدت عينها شديدة الأحمرار .. تحرك رشيد خلفها يجذبها نحوه .. فسرت غضبة في أمها تهز وجدانها .. خطفتها من يده ثم طوحت ملعقتها الخشبية مطرقة بها على يده .. لم يأبها سوى لما يريده .. الإطمئنان على وطنه الغالية .
مد يده مرة اخرى نحو وتين التي رأت تأزم الموقف .. فهبت محتقنة العين تهتف :" لماذا امي ؟!!.. رشيد لم يقصد ".
هتاف امها الخائف عليها :" لا .. كان يقصد .. أنا لا أصدق غباءه المصطنع هذا .. هو فقط يدعي ليظل محط الإهتمام .. وهاهو يضربك بالنهاية .. أهذا رد الجميل !!".
تتحرك بابنتها تريد أن تضعها أمام أبيها .. لكن وتين كانت تتمزق في هذه اللحظة .. بين يدي رشيد القوية التي تمسك بها بلا رعاية .. حتى القسوة منه ناتجة عن حبه لها .. حب لتلك الصغيرة التي تمنحه الآمان في الحياة .. مزمجراً:" وطن لي .. ملكي ".
لم تجعل كلمته المتوسلة امها تهدأ بل العكس هو الصحيح .. ارتفعت حدة خوفها .. فجعل صوتها يعلو بخشونة .. لدرجة ضربت يده بمعلقتها الخشبية :" ما معناه أنها ملكك .. ثم ما وطن هذه .. أنها وتين .. وتين لا يملكها شخص أخرق مثلك ".
ثم غمغمت في ضيق باذخ الأحرف وهي ترفع ملعقتها مرة أخيرة :" ضربة الله تأتيك في قلبك .. يا مجنون .. مثل أبيك عقل المجنون الذي كاد يقتل أمك .. عقل ورشيد من يمنحكما أسماء العقلاء مجنون أكثر .. انت كارثة مثل أبيك ".
كلمات كثيرة غاضبة غامضة على عقله الذي لا يستوعب الكثير .. خاصة لو قيل بسرعة مثل هذه الرصاصات الكلامية التي يقذفها لسان زوجة عمه .
جلس أرضاً يدق جانبي رأسه بين كفيه كإعلان منه على التوتر الذي أرتفعت حدته .. الصراخ والكره أوصلاه لدرب الحزن المقيم .
تحركت وتين ناحيته .. تربت عليه .. تطمئنه باناملها ..هامسة بصوتها الحزين :" رشيد .. أفق .. لا تجعل المرض يحضرك ".
ثم اندفع صوتها نحو أمها معاتبة :" لماذا تكرهينه ؟!!.. لم يفعل لي شيئاً.. كان تحت الفراش .. تحرك خارجاً فصدمت قدمه وجهي .. انا وقفت في مكان خاطيء".
عادت تنذر امها :" لن أحبك لو جعلته يمرض مرة أخرى .. كان تعافي من هذه النوبات .. أخر مرة كانت عندما دفعتي أشياءه على الأرض وظل يدق المنضدة يطالب بها .. ما تفعلينه قسوة .. لما أنت قاسية هكذا
".
هدرت أمها في ضيق مبالغ فيه نتيجة بغض هذا الوضع الفقير :" لقد نجح في تقليبك علي.. هذا ما فعله عمك مع أبيك .. جعله يكرهني من قبل .. وأجبرني أبيك على الحياة هنا .. لم يوافق على بيع كل شيء ومغادرة هذه البلدة والمغادرة لمدينة نرى فيها البهجة ".
تحركت قدماها نحوه تحتضنه برقة ذراعيها .. تهتف بحنان دافق :" رشيد أنا هنا .. وأنت حبيبي رشيد ..أنا وطن .. وطن ".

دلف ظل طويل يتهادى بسرعة .. نحو الغرفة قصاداً الصغير المنكب على نفسه في سجود متوجع الروح وابنته تلفه بذراعيها تهديء من روعه .. بينما الصغير يداه كمطرقة تعصف بالجانبين عصفا.. جثا جوار الصغيرعلى ركبتيه .. واضعاً كفيه حول رأسه الكبير حتى يتلقي ضرباته عن رأسه .. تلاحقت كلماته تحاول إختراق هذه الزوبعة النفسية العاصفة :" رشيد .. رشيد .. أفق حبيبي .. كن قوي .. رشيد لا تدع أحد ينال منك .. لا تهزم نفسك فتهون.. قف على قدميك ".
بدأ الصغير ينظر لعمه بأعين دامعة ضائعة .. جعلت الإشفاق ينال من قلب الرجل الشاب أخذ صغيره في حصن قفصه الصدري .. يتمتم في آذنه بالدعاء الشافي والآيات القرأنية .. مع عبارات إيجابية تعلمها من الطبيب .. لتجعل حالته في استقرار .. مثل نحن معك .. كن قوياً.
بدأ الصغير يغفو بين يدي عمه .. همهم في رحلة الوسن الخاصة به :" وطن .. لي .. أنا.. وطن ".
نظر أبيها للخلف حيث تحركت لتقف بعدما تولى أبيها الأمر .. ليراها لأول مرة متورمة العين دامعة العينين كاتماً الشهقة في صدره .. أشار إليها لتحضر مقتربة.. مالت على رشيد تحدثه وهو في حصن أبيها :" رشيد أنا وطن .. هنا ".
ربت ابيها على ظهرها هامساً:" حبيبتي .. سأذهب بك للطبيب فوراً".
اقتربت تميل نحو أبيها تقبله من خده .. لكن راخلها تدرك أن هناك طلب خاص برشيد .. قبلها والدها في حنو مطالباً هامساً بهدوء :" احضري غطاء ، وفراش مع وسادة ".

تحركت زوجته من مكانها لتحضر هي ماطلب .. لكنه زجرها بعين غاضبة .. زاجراً لها من بين أسنانه :" غدير .. هيا للخارج ..ابنتي تلبي طلبي".
نظرت نحوه تريد إبلاغه ما أفسده عليها هذا المعتوة :" ضربها .. ضربة الله تأتيه .. فلم ...".
تنهدت الصغيرة هامسة بصدق عندما رأت كف أبيها يرتفع في غضب مخرساً أي كلمة من فيه زوجته القاسية :" أبي .. كان رغما عنه ".
ما كان من زوجته سوى الهرولة باكية للخارج تدرك ان هناك حساب كبير على هذه الحالة الخرقاء .. استطردت وتين تكمل مع الابتسامة الصبوح التي وضعها أبيها في عينيه الناظرة نحوها :" وقفت في مكان خاطيء فأصابني دون قصد .. أمي تخشى علي كثيراً.. اعذرنا يا أبي ".
كانت تتحرك في الغرفة ساحبة الغطاء الخاص برشيد .. عليه الوسادة .. ، فيتماوج صوتها علوا وأنخفاضاً مع انفاسها الصغيرة المجهدة .. أحضرت لأبيها الغطاء فصار يفرده تحت صغيره المكروب .. بينما وتين تدرك ما يساند أبيها على حداثة عمرها .. فتضع الوسادة مكان رأس رشيد .. ثم تتحرك في همة تجلب غطاء إضافي من داخل الخزينة خلف الستارة القماشية الموشاة بالأزهار .. صعدت على أرفف الخزينة دون أبواب .. فقد كانت نافذة قديمة أغلقها أبيها وصنع لها أرفف حتى يتم الإستفادة منها .. أسقطت بيدها الصغيرة الغطاء .. حملته بين كفيها الضعفيتين حتى أبيها .. أرهقها الفعل كله .. لدرجة سقطت فوق الغطاء الناعم الهش .. ابتسم لها والدها الجالس حتى لا يفيق الصغير من غفوته الإجبارية التي تتبع النوبات العصبية .. ثم ربت على ظهرها الضئيل .. سحبها نحوه هامساً:" تعال .. يا حبة قلب أبيك .. تعال في احضان تفتقدك ".
رفعت ذراعيها تعلم أين مكانها .. قيدت بها عنق أبيها .. بينما ساقيها تلتفان حول خصره .. حريصة كل الحرص أن لا يمس حذائها رداء أبيها الأزرق الخاص بعمله .. رغم انه ملطخ بالسواد في مناطق كثيره .. رفع اصابعه نحو ظهرها يهمهم لها .. باثاً فيها حبه لها :" أنت أجمل فتاة .. يا نهر جسدي ".
ابتسمت لكنها سألت :" لا أفهم .. ماذا تعني .. نهر .. ماذا.. ماذا".
ارتفاع صوتها المستفسر قليلاً جعل عينا رشيد تتحركان تحت جفنيه المسدلتين في نصف استفاقة .. سأل فيها عنها بصوت مرهق الحواف ملتوياً:" وطن .. وطن .. تعال".
مد ذراعه الضخم امامه وربت على الوسادة .. يريد منها أن تنام مثله .. ربت عليها أبيها .. لتفعل ما يريد .. بالفعل توسدت ذراع رشيد الذي بدأ يربت على كتفها كما كان يفعل وهي أصغرعمراً .. بينما والدها دثرهما معاً.. هامساً:" أعلم أنك لا تريدين النوم .. قليلاً فقط حتى ينام .. بعدها سأحملك للخارج لنذهب للطبيب .. خلال هذا سأحكي لك قصة أسمك ".
جلست معتدلة فزمجر رشيد .. هتفت به في شبة غضب :" سأقبل أبي رشيد .. لا تقيدني .. لا أحب القيود ".
وضعت قبلتها على وجه أبيها تحت اعين رشيد الذي فتح عينيه عندما هدر صوتها ثم اغمضها في اطمئنان .. آمن عليها .. وعلى نفسه معها .. قياده في يد هذه الصغيرة .
بدأ ابيها يقص عليها قصة عمها عقل :" عمك عقل هو من سماك وتين .. على أسم امرأة لم يعشق سواها .. ووتين هذا هو الشريان الذي يغذي الجسد بالدم .. لو انقطع مات الشخص .. نطلق عليه نهر الجسد أو نياط القلب .. الحزن يجعل هذا الشريان يتلف فيمرض الشخص وقد يموت .. عديني أن تبتسمين دوماً.. الحزن لا يليق بك وتين قلبي ".
ابعدت كف رشيد بهدوء .. حتى ترتمي في حصن أبيها .. الذي تلاقها برحمة .. حاملاً إياها .. حريصاً على اسدال الستائر لهذا الضعيف .. بينما يحادث وتين قلبه بحنوه :" أريدك أيضاً أن تعديني .. أن تساندي رشيد ، ولا تتركيه للغرباء في أي مكان يتنمرون عليه ".
تمتمت في حماس :" أنا اضرب من يقترب منه في المدرسة .. لكنه لا يفعل شيئا لمن يتنمر عليه .. يضع كفيه على رأسه وينزوي .. هكذا يدركون ضعفه .. لا اعرف كيف أغيره يا أبي؟!!".
بدأ أبيها يهبط بها الدرج الخشبي الفاصل بين الشقتين ثم بين شقته، والورشة التي يستخدمها في إصلاح السيارات .. فهذا هو عمله .. اطل عليه وجه زوجته تتحادث معه :" إلى .. أين ؟!!.. هذه فتاة دعها لا تلوثها في ورشتك بالدهان والشحوم ".
اهمل الرد عليها هامساً نحو صغيرته :" ستكونين في معزل عن الدهان .. سوف أريك الأرجوحة التي قد صنعتها أنا ورشيد من أجلك وتيني ".
لم تصمت زوجته .. هتفت في ضيق :"لا أعرف .. لماذا تفضل المعاق الأبلة علينا ؟!! .. لماذا لا تضعه الملجأ؟!!.. فهو يتيم على أي حال ".
اغمض عينيه حتى يكظم غيظه منها :" لانه لحمي .. دم أخي .. نحن لا نترك دمائنا في الطريق ".
هبط نحو الورشة .. حيث المعدات .. بينما السيارات قيد التصليح في الخارج .. عبر البواية الحديدية الكبيرة .. ثم أنزل صغيرته من أحضانه .. مشيراً نحو إطار سيارة مطلي باللون الأحمر معلقاً بسلاسل حديدية مشدودة إلى شجرة تين ضخمة عتيقة من عمر أخيه نفسه .. وربما من عمر امه فهي صاحبة كل هذا المنزل ، والحقول حولها .
هرولت الصغيرة تقفز في سعادة .. تصفق بكفيها .. تتحدث بصوت يماثل هديل الحمامات المرفرفة فوقهما :" أجمل هدية أبي .. هيا ضعني فوقها .. وقفت تنظر أسفلها وجدت ابيها قد وضع داخل الإطار حشوة متينة حتى تتحملها فلا تسقط منها أيضاً.
غمغم أبيها :" سوف أذهب بك للطبيب أولاً ثم نعود فأجعلك فوقها ".
كانت تقفز امامه تريد تجربة الأرجوحة .. لكنه أصر على ان يكون بعد العودة .
***********
بعد ساعة **
دلف والدها داخل المنزل يحملها بعد أن طمئنه الطبيب ومنحه محلول للعين .. وضعه لها أبيها حالما خرجا من زيارة الطبيب .. تاركاً إياها في حماية رشيد الذي تعلم بسرعة .. كيف يدير لها الأمر .. وقف يدفعها .. بعد مرات فاشلة .. كاد يسقطها مرات .. لكن عمه وصبره في رحلة تأهيله .. ظل يكرر :" ببطء .. لا تستخدم قوتك كاملة .. دفعة صغيرة ".
تركها أمنة معه.. فلا أأمن على الصغيرة من انسان لا ينظر إليها كلحم .. بل ينظر لها على انها قلب ووطن.

وضع راحته على كتفها ، فأنتفضت بقوة هامسة:" لقد افزعتني رشيد ".
أدارها بين راحتيه :" لا يفزعك شيئاً وأنا هنا وطن ".
حدقت في جسده المتعرق من رأسه حتى هناك بقع كبيرة بدلت لون قميصه الزيتوني لدكنة تصل للسواد .. همهمت وهي تمس هذه البقع :" ما هذا ؟!!.. أين كنت ؟!!.. لقد ناديتك كثيراً".
تركها عند باب الغرفة متحركاً نحو الداخل .. نزع قميصه .. ووضعه جانباً بعناية تخصه وحده ..رأت عضلاته القوية وتقسيم صدره القوي فوق عضلات بطنه البارزة .. ثم تحرك نحو منشفته الخضراء وراح يجفف صدره العارى .. بينما صوته يستفسر :" كنت تناديني يا وطن ؟!!".
اجابته وهي تقفز بروح الطفولة التي تسكنها .. مصفقة بكفيها :" اليوم تعاقدت مع قرية العزازي السياحية ، وقرية النورس كذلك .. على أن أوفر لهما الورود كبديل للمتجر الكبير في أول المركز فقد جلب لهما أزهاراً ذبلت في الليل .. أغضب هذا ندا العزازي وذكر لمدير القرية أن يبدل وردي الأزهار للقريتين .. فله جزء كبير من ملكية قرية النورس ".
لا تصدق أنه تبدل بهذا الشكل .. معها يبدو طبيعياً .. لكن مع الغرباء لا يستطيع النظر حتى في عيونهم .. اقترب منها هامساً بسعادة .. واضعاً يديه على كتفيها :" مبارك.. هناك هدية لك مني ".
هرولت تقفز من تحت كفيه داخل الغرفة هاتفة :" أين المفاجأة؟!! .. أهي ثوب .. أم حقيبة ؟!!".
ارتبك بغتة .. خشي ان تعبث في الغرفة فتدرك ما بها أو ماذا يخفي عنها ؟!!.. همهم بغتة بإنزعاج :" ليس هنا ".
بدأت تفتح الخزينة .. لكنه صدح بارتفاع صوته بينما قدميه تتحرك بلهفة .. وقف أمامها حتى لا ترى صورها المعلقة خلف ملابسه :" لا وطن .. نفذي ما أقول لك .. لا تعبثي بغرفتي .. أكره هذا ".
دفعها من مرفقها بغلظة .. ثم أغلق الباب جيداً.. ما جعلها تهتف في ضيق :" لا أريد شيئاً منك رشيد .. أنت لم تعد كما الماضي .. منذ أصبحت تتدرب على الملاكمة .. أصبحت غليظاً".
حرك رأسه برعة .. هاتفاً باستماتة .. جاذباً وطنه نحوه .. وضع كفيه حول كتفيها يحتضنها مهمهماً:" لا وطن .. لا .. أنت ".
هي تعلم أن طريقته في الإعتذار ، وفي كل شيء هو هذا الحضن .. حاولت التملص منه بهدوء تتخذه معه دوماً.. متمتمة :" هيل نأكل ثم تجعلني أرى المفاجأة .. ليتها تكون مميزة حتى لا أعاقبك رشيد ".
ضيق عينيه برهة ناظراً في عينيها الضيقة بقلق حتى ابتسمت فارتفعت البسمة لعينيها .. مما جعله يعاود عناقها وابتسامة راحة تشع داخل عينيه :" ستعجبك الهدية ".
كان يتذكركلامات عمه دوماً .. يحفظها عن ظهر قلب .. يرددها كلما سار حتى معها " ضع سقف أمانيك حسب قدرتك لتعلم كيف تنفذها .. وصاحب من يساعدك فيها .. ومن ينمي الأمل داخلك ".
سألته بنعومة صوتها :" أما زلت تحرص على حفظ هذه الدروس ".
تجاهل الإجابة كلياً فقد كان في حالة داخل نفسه .. يسير معها بينما هي تحترم تبك الحالة التي تدركها .
هبط الدرج القائم بسهولة رياضي متمرس قابضاً على القائمين بكفيه القويتين القادرتين على الإنزلاق .. حتى هبط على قدميه .
بدأت هي الهبوط بينما هو تلهي بعدد درجات السلم المعدني .. ظل يعدهم .. وكأن هذا هو اعظم شيء .
هبطت تمسد كتفه .. وتتمتم بتطلب :" أين هديتي ؟!!".
ابتسم لها هاتفاً:" دوما تتعجلين .. هيا ستعجبك هي في خلف المنزل ".
خرج صوت جدتها :" هيا وتين .. لن أعيد تسخين الطعام ".
هتفت في جدتها :" نعم يا نعناعة .. سوف أجلب لك أبي ".
ثم مالت عليه تفهمه :" هيا بنا يا رشيد حتى أرى الهدية ".
همهم فيها :" والطعام .. لقد حان موعده ".
كانت عيناه تتعلقان بالساعة الجدارية الكبيرة.
وضعت كفيها على عينيه من المام .. هامسة :" هكذا لن تراها ولن تدرك الوقت .. هيا نحو الدرج .. وانا سأظل واضعة يدي على عيناك .. حتى لا ترى الساعة ".
كانت تداعب عقله بطريقتها .. فقد حفظت كيفية التعامل معه .. كان في الماضي عندما يسقط ملعقته يفكر بطريقة واحدة .. يظل يدق على المنضدة حتى جلبت له ملعقة أخرى .
لكنه الآن يستطيع الدوران قليلاً حول ذاته .
عندما اقتبت من الدرج رفعت كفيها من فوق عينيه .. ثم قفزت فوق الحاجز الخشبي للدرج تنزلق عليه حتى وصلت لأسفل سريعاً.. كان ابيها يخطو فوق الدرج .. وضع يده على خصرها هاتفاً فيها بينما يده تحيط خصرها :" مازلتِ على طريقتك يا شيطانة ".
هتف رشيد لائما مصححاً لعمه :" أسمها وطن .. وطن .. فقط ".
تحركت نحو أبيها تقبله .. ثم تنظر لرشيد تشكره :" شكراً لك رشيد ".
ناظرها أبيها هامساً :" اينتفران .. موعد طعام رشيد كيف استطعت جعله يترك المنزل في هذه الساعة ".
همهمت بهمس خفيض اكثر :" جلب لي هدية .. وقد واريت عيناه عن الساعة ".
دفعها بخفة هامساً منبهاً:" هي قبل ان يعلو صوت نعناعة ".
تحركت بسرعة :" هيا رشيد .. هيا ".
كانت تخرج ، وهو خلفها بخطوات تنفذ أكثر مما تفكر.. خطوات تقبل سيادتها عليها .
****************
تنظر للمكان الذي تقدمها إليه .. وجدت أريكة من الخيزران بلا أرجل رفعها بسلاسل غليظة فوق اعمدة حديدية .
حدقت فيها هاتفة :" أرجوحة جديدة .. كبيرة بدل القديمة ".
كانت ترفع كفيها نحو شفتيها تكتم صرخة السعادة التي تكاد ان تخونها فتنطلق مزغردة في جوف الحديقة الجانبية .
تحرك هو حتى سيارته النقل الصغيرة المماثلة لسيارتها التي اعتاد على قيادتها منذ نعومة أظافره .. فتحها .. جالباً وسادة وحشوة للجلوس .. هرول مسرعاً ليضعها في مكانها .. كانت تبرق بأحمرار دامي .. همهمت عندما رأت عيناه تحاولان الإنغلاق عن هذا اللون الذي يوتره .. لكنه توقف قليلاً مغمضاً عينيه عن هذا اللون المثير للضيق .
تمتمت فيه .. متقدمة لتنالهما منه :" أحمر دموي رشيد .. جميعنا نعلم كم يؤلمك هذا اللون .. أنت لا تحبه ".
همهم في إصرار أن يضعهما بنفسه :" أنت تحبينه وطن .. صنعته لك ".
عادت الدهشةتتساقط اكثر داخل عينيها .. من مجرد كلمة صنعتهما .. حدقت فيهما لتجد الحشوة والوسادة محبوطة من غرز يدوية الصنع .. من غرز الكروشية .. هتفت ناظرة إليه :" من نفس الغرزة التي تصنع منها طاقية أبي ".
حرك رأسه مجيباً بايماءة متكررة .. بينما قدميه تقوده حتى الأرجوحة .. يحاول تجنب أطياف اللون الأحمر الذي يذكره بالضيق والضعف .
عاد يكرر نفس الجمل التي كان عمه يعيدها عليه :" " ضع سقف أمانيك حسب قدرتك لتعلم كيف تنفذها .. وصاحب من يساعدك فيها .. ومن ينمي الأمل داخلك ".
التكرار يجعله يشغل عقله عما يدور خارج محيطه .. تحركت نحوه واضعة كفيها معه حتى تضبط المكان .. حاولت أن تصعد وجدتها مرتفعة عن طولها .. همهمت في حسرة :" مرتفعة عني رشيد .. خسارة .. لكن أتعلم سوف أضع هنا مقعداً لأصعد عليها .. ادارها لتكون في مواجهته .. ثم هرول للخلف ليدير ذراعاً معدنية جعلت الأرجوحة تتحرك لتهبط قليلاً .. مما جعلها تقفز فرحاً.. هاتفة :" مؤكد هناك من ساعدك فيها !!.. أبي أليس كذلك ؟!!".
حرك رأسه في حزن رافضاً.. ثم عقب :" صنعتها وحدى .. هي لك وطن ".
هتفت فيه :" أنت ذكي رشيد .. أنها جميلة .. سوف أعلن للجميع عنها حتى يبتاعها منك الجميع من اهل المدينة وكل القرى السياحية ".
حرك رأسه التي يملك بها الرفض أو الموافقة .. محدد الرفض :" لا .. لن أصنع .. هي لك انت فقط وطن ".
هتفت في ابتسامة ناعمة .. وهي تحاول الصعود .. بينما هو يقيد اليد بملاج حتى لا يتحرك فتسقط مكرراً.. اليد مغلقة .. والسلاسل قوية .. وعاد يكرر ما تعلمه من عمه حتى لا يحنقه اللون الأحمر .. وقف أمامها يحملها من خصرها حتى تجلس .. فعلت بأن استندت على كتفيه حتى جلست في أمان .. صارت تجمع ساقيها في عقدة تحتها .. جاعلة ثوبها الذي يصل لمنتصف الساق يتهادى أسفل الحافة .. صار يرفرف في الهواء .. دفعها رشيد عدة دفعات بسيطة .. ثم تحرك بعيداً عنها نحو السيارة .. جلب عدة احجار منها .. على شكل قدم كبيرة بيضاء اللون .. صار يضعها بالتبادل من بداية الحديقة حيث الأعشاب حتى الأرجوحة .. كان قد حجز مكانهم .. أكملت المنظر .. بالفخامة .. نظرت لأعلى .. وجدت مظلة لم تكن انتبهت إليها .. سألته :" كم استغرقك صنع هذه الوسادة وهذه الحشوة رشيد ".
وقف بعد وضع أخر قدم مكانها في الفجوة التي لم تكن قد انتبهت لها .. اخذ يتمتم بأرقام ويكتبها على يده باستخدام اصبعه .. ثم هتف بالرقم :" 45 ألف غرزة .. استغرقت شهرين وعشرة أيام وست ساعات ".
رفعت كفيها تمسد شعرها ..تدرك أنه في الأرقام مبدع بل عبقري .. كان أفضل منها في دروس الرياضيات.. تفكر لقد انفق نمن الوقت الكثير لصناعتها .. همهمت من حيث هي :" مكافأة لك تعال معي نتأرجح سوياً.. تحرك مانحاً إياها حبلا فك عقدته من الشجرة .. وصعد بقفزة واحدة فوقه .. مغلق العينين حتى لا يرفضه فهو لون مزعج له .. مالت عليه تحتضن كتفيه بين ذراعيها :" اشكرك كثيراً رشيد .. لقد أجهدت نفسك ".
ابتسم لها برضا مرتفع الوجيب .. فهمست له باستفسار :" عندما أوجعك اللون .. لما لم تبدله ".
غمغم ومازال في احضانها :" هو لك وطن .. انت تحبينه ".
غمغمت بضيق من تضحيته:" نعم رشيد .. وأنت تعرف تفاصيلي جيداً".
حرك كفيه نحو كتفيها .. رابتاً عليها .. انسلت من بين كفيه بنعومة .. منحته الحبل الذي في يدها .. اخذه منها واخذ يجذبه نحوه حتى تتقدم الارجوحة للأمام ثم يرخيه فتتراجع .. كانت كالحلم بالنسبة لها .. عقبت هامسة :" أمازلت تذكر المدرسة رشيد ؟!!".
غمغم في ضيق :" أنا اكتب وأقرأ .. واحسب .. لا أذكر سوى ابناء العزازي .. كم كرهتهم ".
رفعت اصابعها تح جبينها في استدراك :" أقصد البالون .. والحلويات .. كيف تناولت أنا وأنت وتالا .. كيس كامل من الحلويات ".
ابتسم متذكراً الحلوى وقتها ..


بينما هي تتذكر هذا اليوم البعيد .. كانت جدته تحمل لهما طبقاً فيه عدة شطائر وضعتها بينهما .. جعلتها تدكرك أن الجميع كان يعلم بهذه الأرجوحة إلا هي .. وضعت الجدة طبق الرشيد الأخضر هاتفة :" هذا طبقك رشيد ضع طعامك فيه .. لك ثلاث شطائر ".
امتدت يده نحو الطبق الكبير .. نقل شطائره بطريقته الروتينية .. وصار يقضم في صمت .. بينما هي تحدق فيه بعينا بنية مشفقة .. هامسة لنفسها .. ربما لو كان مختلف كان سيكون لها معه قصة .. لكنه يحتاج لمن تحمله فوق كتفيها وليس العكس .
عادت مرة أخرى ترخي جسدها للخلف .. بينما هو ترك الحبل من يده .. كاد يسقط منه .. لكنها مدت أصابعها تقبض عليه .. ثم وضعته في طرف الأرجوحة في شكل عقدة .. بينما كان كل همه تناول طعامه .. تعلم أن الإرتباك من عدة اعمال يصيبه بتوتر .
عادت لأخر يوم لهما معاً في المدرسة .. تهرول بشقاوة الصغار ..
في ملعب المدرسة الفسيح المحاط بسور مرتفع خلفه تظهر عدة أشجار كبيرة قديمة قدم البلدة .
غمغم رشيد ممسكاً أصابعها :" ما هذا الحبل الكبير .. وماهذه الأشياء فوقه ".
نظرت نحو الحبل الممتد بين شجرتين يحمل بالونات كثيرة أغلبهم به ماء ملون .. مرتخي في المنتظف قليلاً لحمله بالون ثقيل .. داخل البالون الضخم حلوي كثيرة.
عقبت شارحة له :" هذه حفل المدرسة الختامية .. هذا الحبل يحمل بالوناً كبيراً به حلوى .. موضوع على ارتفاع كبير .. تعصب المعلمة أعين المتسابقين .. وتمنحهم عصا حتى يفرقعوا البالون وينالوا الحلوى .. الفائز سينال علبة حلوى كبيرة .. وجائزة في الرماية .. لكن هناك بالونات مملوءة بالماء الملون بالأحبار .. ستغرق من يسقطها ".
رفع اصابعه بغير معرفة .. ورأسه يطرق بإهتمام .. جعلها تكرر.. مع أجراء الحركات .. بدت تشرح كأنها تشرح لأصم .. لكنها توصل له المعلومات عبرالحركات .. وضعت اصابعها على عينيها ثم ربطت عقدة وهمية في خلف رأسها .. قفزت في الهواء طوحت عصا خيالية نحو الأعلى .. ثم نثرت من بين اصابعها حلوى وهمية .. جعلته يبتسم في وعي .. جعله يعقب ضارباً صدره براحته :" أنا .. وطن ..أنا ".
وجدتها فكرة جميلة .. أن كانت هي صغيرة فرشيد كبير ، وضخم بقليل من المساعدة تستطيع الفوز بالحلوى .
جعلت رشيد يميل نحوها باشارة من يدها .. مال عليها ينصت بينما هي تحادثه حتى يعلم .. خطتها الشيطانية فينفذها باجادة .. عندما يكون تحت البالون ستنادي عليه كما في لعبة الأختفاء (الأستغماية) التي يلعبانها معاً .. ستجعله يفوز لها بالحلوى .. لا تدرك في عمرها هذا سوى أنها تريد الحلوى .. ستتقاسمها معه .. ولا يعد هذا غشاً بالنسبة لها فقدرات رشيد تحتاج للمساعدة .
بالفعل بعد دقائق كانت تجمع الحلوى المتساقطة في حجر زي المدرسة بلونه الوردي المخطط بالأبيض .. جمعت الكثير والكثير.. منحت من طالبها بأدب ومن حاول سرقة حلوهما .. كانت تصرخ فيه مطالبة أن يتولاه رشيد فيكون نصيبه ضرباً مبرحاً .. كانت تخيف به الصغار .
وضعت المعلمة لهم الحلوى في كيس كبير .. حمله رشيد .. بينما هي حملت الهدايا الخاصة به .. عائدين للمنزل مع تالا ابنة الجيران وصديقتها .. كل برهة ينزل رشيد الكيس ليمنح كليهما من الحلوى .. افواههم منتفخة الأوداج من الحلوى المكدسة داخلهم .
بعد قليل في الطريق .. تحركت سيارة فارهة جوارهم مما اضطرهما التحرك تحت الطريق ..عندما وجدتها وتين أخذت يد رشيد تسحبه خارج الطريق الأسفلتي نحو الطريق الترابي حتى لا يتأذى من السيارة حتى لو بالخوف .. كانت سيارة ندا العزازي أحد وجهاء البلدة توقفت أمامهما .. هبط منها ولد صغير بالعاشرة من عمره هو زميلهما بالمدرسة الوحيدة في المدينة الصغيرة.. يقل عن رشيد بعدة اعوام .
أشار إليهم باستخفاف يحمل الغل :" أنتما من خدعتما المعلمة .. خدعتم الجميع حتى ينتصر هذا المعاق علينا ".
نظرت لتالا التي ابتعدت للخلف تتمسك بشجرة كبيرة .. تماثلها العمر .. لكن أمها مخيفة مفرطة العصبية خاصة معها .. تجلعها تخشي كل شيء .. ستعاقبها لو اتسخت ملابسها .
انتفضت غضباً تحركت نحو هذا الغاضب .. لم تتفوه بشيء كانت تدفع مقدمة حذائها نحو ساقه بقسوة .. جعلت صراخه يرتفع .. وسرعان ما هبطت دمعاته .. هتف السائق حيث هو :" زين بك تعال .. عد للسيارة .. لا تتعامل مع هؤلاء ".
تحدثت للسائق قائلة بكل شموخ :" ما بنا يا عم .. ما يفرقه عنا ملابسه الجديدة فقط ".
ثم نظرت للصبي الباكي : أذهب دعه يمسح لك دموعك .. ربما يبدل لك سروالك أيضاً ".
ثم بدأت تغادرهما .. تمسك رشيد تجذبه نحو المنزل .. تجاهلها أغضب الولد .. وكذلك شموخها .. كيف لها أن تكون هكذا لا تهاب أحداً.
اندفع الولد نحو ظهر رشيد بكفيه يدفعه بغل مما جعله يفقد اتزانه سقط على ركبتيه.. تحركت نحوه محاولة ان تمنع سقوطه لكنها لم تستطيع .. صرخ ألماً وبدأ يزوم في توتر .. لولا الصغيرة وضعت كفها على رأسه .. تمسده بحنو فبدلت حنقه لابتسامة جعلتها تنتقم له .
تحركت في غضبة أشرس نحو وجه الصبي المبتسم بانتصار .. طوحت كفها الصغير ثم هوت بها على وجهه هادرة بصوتها :" حقير .. قذر .. هل هكذا انتصرت .. متنمر تافه".
غضب في غضب .. وتوتر حاد جعل الصبي يدفعها فسقطت على قاعدتها أرضاً.. لم يترك مجال لرشيد الذي لا يهتم لنفسه دائماً .. لكنها هي التي يهب من اجلها .. وقف من مكانه متجهاً بإندفاع نحو هذا المعتدي على وطنه الغالية .. دفع الصبي ليسقط على الأرض وبعدها اندفع أكثر جالساً على صدره .. انهال عليه باللطمات .. صوته الخشن يهدر بتحذير بالغ :" وطن .. لأ".
حاول السائق تحريك رشيد فلم يستطيع ولا استطاع حمله .. اتجه نحو وتين متوسلاً:" دعيه يغادرواذا طلب التوقف لمواجهتكما فيما بعد لن أنصت له .. زين سيموت .. وأخيك سيدخل السجن".
انتفضت خوفاً نادت من مكانها:" رشيد .. هيا بنا .. كفاه ما ناله".
وقف رشيد متحركاً نحوها في طاعة .. جعلها الإنتصار ترنو نحو الصبي الجالس أرضا الذي صرخ فيها :" كل هذا من اجل الحلوى أيها الجائع .. يا جوعي ".
رمت له واحدة من الحلويات المتواجدة داخل جيبها مهاجمة :" أنت جائع أكثر منا .. خذ طالما مقهور من أجل الحلوى التي لا يخلوا منها قصركم .. لكن ربما هي للزينة ككل شيء فيكم ".
غيظ وحقد استبد به.. ظل يصرخ فيه :" معاق .. متخلف ".
فلم تجد سوى التصرف الوحيد الذي يحفظ لهما كرامتهما خاصة كله أمام صديقتها الوحيدة .. أمالت جذعها نحو الأرض في وضع الركوع .. تبحث عن حجارة الطريق.. جمعت بعضها .. ثم بسرعة يشهد لها الجميع فيها .. كانت تطلق كل حجر نحو الغاضب .. فتجيد التصويب انهالت الحجارة عليه وكل واحدة تصيب أما وجهه ..أو جسده .
هدرت مشيرة بسبابتها نحوه :" المعاق من لا يعرف كيف يدافع عن نفسه .. رشيد انتصر عليك .. انت المعاق ".
ثم غادرت المكان معها قريبها .. لكنها لم تدرك أن رشيد كان قد قرر قرار نهائيء فيما يخص المدرسة .. فكل يوم له خلاف مع احدهما .. ينعته بالمعاق حتى بعض المدرسين كانوا يطلقونها عليه .. مما يجعل بعض التلاميذ يضحكون عليه .
تحرك نحو السيارة صبي أكبر من رشيد يمتطي جواد عربي أصيل بدا لوتين لامع البشرة .. هتف في السائق :" عم بخيت .. نظف لأخي ملابسه ودعه يصعد السيارة ".
هتف السائق في تعثر مضطرب خائف :" حاضر جاد بك .. حاضر ".
امتعض فم زين وصرخ في أخيه :" لا تظن انك ستأمرني ما أفعل .. لست أبي ".
تحرك أخيه نحوه يتهادي فوق جواده .. مال لأسفل قليلاً بصوت خافت منذر بالعقاب :" بل أقدر .. طالما أنت طفل تضايق الضعفاء .. هاهي فتاة مسحت بكرامتك الطريق ".
لم يدع أخيه يجيبه .. بل تهادى فوق جواده يتحكم فيه .. مما جعل زين يقبض على أصابعه في ضيق .. بعدما صعد السيارة وبدأت تأخذ طريقها للمنزل .. حملق في تلك الصغيرة التي لها القدرة لتقود هذا الشاب الضخم .. تسير تسحب يده .. وكل برهة ترفع له قطعة حلوى تضعها في فمه يأكلها بتلذذ.. ثم يضجان بالضحكات الشقية.. كل حركة تقوم بها تحنق قاطن السيارة يتمنى أن يهبط مرة أخرى ليريها مقدارها .
لكنه يعلم أن أبيه سيقف في هيبته الغير اعتيادية يشير له نحو غرفته حتى يعاقب نفسه بالتعامل مع هذين الطفلين .. النظرة الفوقية تحكم عالمه كله .

همهمت في رشيد بعدما أفاقت لمكانهما فوق الأرجوحة :" لماذا لم تذهب للمدرسة بعد خلافنا مع زين العزازي واخيه ".
صمت كلياً ووضع أخر قضمة في فمه .. ثم أخرج من جيبه اثنان من مصاص الأطفال الكبير الذي كانت تعشقه .. منحه لها أخذت الأحمر .. وتركت له البني .

كان هو يفكر مثلها في الماضي الذي قضاه مع عمه في التعلم .. منذ هذا اليوم الذي فاق كل الحدود معه .. عاد غاضباً.. ظل يدق في عبواته الصدئة عدة ساعات .

رفض كلياً العودة للمدرسة ..ف
تولي عمه تعليمه بنفسه .. واشترك له في مكان للتدريبات الدفاعية حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه.. لدى أحد المدربين في القري السياحية كان يدربه مع ابنه كلاهما فقط .
رغم انقطاعه عن الدراسة لكنه لم ينقطع عن المدرسة .. يذهب يومياً مرتين .. ليرافق وتين حتى المدرسة .. ثم يعود ، وفي وقت العودة يذهب ليعود بها .
عاد صوت عمه يتردد :" انطق يا رشيد خلفي .. وتين .. وتين".
هتف في حماس شديد يحاول استجماع أعلى شفته التي تتدلى أحيانا: " وطن .. وطن ".
ربت عمه على كتفه بيده الدافئة :" يا رشيد لقد سبق وافهمتك ان الوطن هو الدنيا والحياة .. الشخص دونه يحيا في وحشة .. الكون يكون قاسياً على أي شخص بلا وطن ..كل شيء مؤلماً .. جارحاً ".
اراد تبسيط الكلمة بعد طول الشرح :" الوطن هو نحن".
ابتسم معقباً .. في راحة بينما كفيه تنبسطا جانبه :" هي كذلك .. وطن .. وطني ".
حدق فيه عمه بغير تصديق هذا اللئيم يعلم ما يفعل .. يناديها هكذا لأنه يعلم أنها وطنه .. ولكن هل سيقدر على الحرب الكلامية والعقلية .. بعقله البريء وقلبه الطاهر .. تمنى برحمة أن تعشقه صغيرته .. فهذا القلب يحتاج لإحتضان قلب وتين العادل .. التي عاملته ككل شيء تملكه .

همست فيه :" رشيد هل انتهيت من الطعام حتى أخذ الطبق منك ".
وضع كفه على كفها يشدد عليه .. بينما ابتسامتها تلوح له .
التمسك هو ما يعرفه .. الإحتضان سبيله للشعور .. وهي صغيرة رقيقة لا تعلم ما خلف اسوار النفس البشرية.. ولاتدرك ما تحدثه من أضرار .

********
بعد ربع ساعة في مكان أخر قريباً **
هتفت في أمها :" أمي أنا ذاهبة للعمل .. رجاء أرعي جاسر حتى أعود ".
صدح صوت أمها :"لا يا تالا .. أريدك ان تأخذي صغيرك وتعودي لمنزلك ".
تنتفض في ألم :" أمي تختارين دائما الوقت الغير ملائم .. انا ذاهبة للعمل ".
هتف أبيها فيها :" خذي سيارتي يا تالا .. وابنك امانة في عيني حتى تعودين ".
ضربت زوجته راحتها فوق ضاهر الأخرى المعقودة تحت صدرها .. هاتفة :" ما هذا الحنان .. سيارتك تلك التي شابت أكثر منك .. زوجها صائغ .. لا يترك مثله.. المال له مشاكله ".
همهم الأب بكل كبرياء :" فيما بعد يا حسنية .. لديها عمل ".
ملوحاً لصغيرته التي نظرت لأمها في ضيق قبل أن تغلق الباب دونهما.. لتهتف الزوجة:" لو كان مثل زوج سارة كنت شجعتها للمكوث هنا مثلها .. يكافح في الخارج .. كان يريد ابنتي معه في غربة غيرمحمودة العواقب .. لكنني أصررت عليها المكوث هنا .. وهو عندما يريد رؤية طفليه يحضر ليراهما ".
غمغم الأب في ضيق :" ليتني لم أنصت لك .. سارة تحيا في اكتئاب .. وتالا ماتت ابتسامتها بالفعل ".
ضربت زوجته على صدرها براحتها :" الآن انا السبب .. لقد تحركت مثل القرد على الشجر .. حتى أجلب زوجين لبناتي .. كبراهما تزوجت مهندس وعندما فتح الله عليه كان له عقد عمل في الخارج .. والأخرى تزوجت صائغ له معرض كبير في كل قرية سياحية والمعرض الرئيسي في أكبر فندق في المدينة ".
تحرك صغير ابنته من العرفة حتى الإستقبال حيث يجلس جده .. فتح له جده بوابة ذراعية فقفز فيهما :" جدي .. أريد مشاهدة برنامجي ".
وقف الجد على قدمية متحركاً نحو المقعد الجانبي .. مجلساً الصغير مكانه حتى يبدل بنفسه البرنامج .
مما جعل زوجته تهتف فيه :" هذا ما نأخذه من أطفال الفتيات .. يتحكمون فينا .. حتى لا نقدر على مشاهدة ما يحلو لنا ".
انتفض الرجل في غضبة :" ولماذا تمسكت بسارة لتمكث هنا حتى يعود زوجها ".
ضربت براحتها على صدرها في ضيق مستنكر :" اتريدها ان تجلس في منزلها وحيدةحتى يعود .. آلا تلاحظ أنه تأخر هذه السنة في الحضور ".
عقد الرجل حاجبيه .. ناظراً لحفيده جاسر الذي وضع كل اهتمامه في برنامجه هامساً لزوجته :" هذا ما يقلقني .. كانت تحيا في سعادة حتى اقنعتيها بعدم المغادرة معه .. له ثلاث أعوام .. لم يحضر ولادة ابنته الصغيرة .. وعندما حضر مكث اسبوعين ثم غادر لعمله .. الوقت هكذا سيجعلهما يبتعدا عن بعضهما البعض ".
تحركت زوجته من وقفتها مقتربة منه تهدر بصوت غادر :" هل تريد أرسالها للغربة .. معه .. فلا نعلم كيف يعاملها ".
ضرب الرجل كفاً بكف :" طوال أعمارنا نعلم ان الزوجة مع زوجها إينما ذهب .. تكافح معه حتى يصبح للحياة طعماً.. لكن امثالك قلبوا الآيات رأساً على عقب ".
هتفت في استدراك لئيم :" تالا هنا لهاعام ولم تتحدث معها يوماً.. وكلما تحدثت معها تلومني ".
غمغم في ضيق :" أنت لا تملكين أي أحساس .. ابنتك قهرها زوجها .. الصائغ .. صاحب المعارض .. علمنا سيرته العاطلة .. ولم نعلمه حتى أننا علمنا .. قهر ابنتنا يا امرأة .. قتل تالا .. ذبحها بأفعاله .. وهي هنا بعد أن تعبت منه .. هل تريدين ردها إليه .. مكافأة على خيانتها ".
كانت عيناه تراقب رد افعال الصغير .. مما جعل زوجته تهتف به :" لا تخف .. لا يعلم شيئاً.. يراقب برنامجه ".
همهم معلماً:" م من امرأة بيننا تحيا بالتنفس فقط .. والذي يبحث عنها يجدها قد فارقت الحياة من زمن .. راقبي اختفاء بريق الحياة .. الأمل والقوة داخل أعين فتياتك يا أم الأولاد ".
همهمت في ألم :" فكري قادم بعد شهرين .. كنت أريد أن تغادر تالا حتىيقيم عندنا هنا .. بدلا من البقاء مع زوجته بمفردهما في منزلهما .. ألم يكفها معه طوال العام في المدينة .. لا يحضرا هنا إلا للصيف ".
ابتسم في اعجاب :" امرأة مميزة وامها أيضاً مميزة جدا .. لقد شجعتها أن تغادر مع زوجها حيث عمله .. لذا دعيه يحيا في شقته الصيفية حتى لا تجلبي لهماالحزن .. يكفي أحزان ".
قامت متنمرة مهاجمة :" أنت هكذا .. لا تنصفني أبداً.. دوماً تراني مخطئة ".
حدق الصغير بجدته التي بدت تصرخ في غضب .. خشي أن يكون قد أغضبها .. همهم مكانه :" هل تريدين برنامجك جدتي ؟!!ط.
امتعضت ملامحها غاضبة .. مهاجمة الصغير :" لا .. لا أريد طالما انت سعيد .. يا قلب جدك ".
ضرب الرجل كفه غاضباً.. ثم وقف :" ما رأيك يا جاسر .. تعال ابتاع لك ولأولاد خالتك حلوى من أقرب مكان ".
هرع الصغير يجلب حذائه الخاص بالخارج .. عاد يرتديه .. ويده تتعلق بيد جده .. خرجا معاً يغني الصغير أحد أغاني الأطفال التي تعلمها له أمه .
ابوها يفكر في هذا العملالذي جعلها تنهض هكذا في ضيق .. عيناها تنطق بالحزن .. نادماً على اختياره لهذه الزوجة المتسلطة التي تسير الدنيا بعقلها الضئيل .. فجعلت حياة أولادها صعبة .. حتى ابنها الوحيد عندما أهنكت زوجته .. وجد عملاً في العاصمة وغادر هناك .. فاراً من سلة المشكلات التي كانت ترسلها له أمه كل صباح .
أما تالا فقد خذلها زوجها بالخيانة المتكررة .. لم يستطيع ايفاء حقها من هذا الرجل المقيت الذي هتف بها .. لو اردت العودة عودي بمفردك .. فأنا لم اخرجك من المنزل .. حياتي لن تتبدل .. وقتها وجد ان الحل تشجيعها على المكوث في رعايته .. لكنها ستموت بلا حب ورعاية زوج يحترمها .. صار عليها التخلص ممن يضعها مكان حذائه .. لابد له من تخليص ابنته من تلك الزيجة الحزينة .
**************

الآن **


كان يفضل الصمت حتى يريح باله .. تجاهل التغيرات وكأنه لم يرى .. فقط لأنه لم يهتم بها يوماً.. لم تكن خياره .. فرض جديد فرض عليه .. ابنة أحدي أصدقاء الباشا .. مازال يذكر عندما دخل عليه غرفته بلا طرقة استئذان كعادته .. هاتفاً بصوت حيادي جامد :" جاد لقد حادثت نجيب الصرفي لتتزوج ابنته ميرال ".
انتفض واقفاً من أمام عمله المفتوح على هيئة ملفات كثيرة يدرس بها ملفات مراقبة وتحليلات أحدى الجرائم كلها على حاسوبه المحمول .. وقف هاتفاً في ضيق :" تزوجها أنت .. أنا لن أتزوج سوى من أريد ".
تجاهل كامل لثورة ابنه المدموغة بالقهر :" أنا اعلم ما يفيدكم .. انتم مجموعة عناد فقط .. أنا افهم أكثر منكم ".
ابيه وعناده الذي قد يصل به لإلقائه في الشارع لمجرد كسره وانفاذ كلمته .. تزوجها إكراماً لابيه .. لكنها لم تطيعه ولا هو احبها .. هو وحده يحمل تبعات الخيانة .

أمام ذات المبني**

قلبها دق بنبضات تتردد في لحن موحد لمجرد قرارها أنها ستطرق باب زوجها بعد لحظات معدودة .. ذات المكان الذي تتبعته إليه من قبل .. صفت السيارة أمام العقـار المرتفع .. حدقت في السيارات المتواجدة .. وجدت سيارة زوجها التي تعلمها جيداً.. لم تدرك هذا الرجل في السيارة التي توقفت جوارها في ذات اللحظة .. بينما هو عمله قائم على الملاحظة .. لاحظها وادرك أنها ليست زوجته .. حتى سيارة زوجته لم تكن في الطريق ولا في الجوارفقد دار دورة حول المكان .. ربما كانت تلك لعبة سخيفة لتحطيمه .. لكنها لن تكون من أبيه .. من ارسل له الرسالة ؟!! .. لقد طلب من صديقه بشر معرفة صاحب الرقم وسيجلبه له .. هو هنا ليتأكد من واقعة الزنا .. لابد له أن يستعيد الضابط المتماسك .. تحدث مع نفسه :" هذه واقعة .. ليست زوجتك .. أنت لا تحبها حتى لو كانت هي لا تغضب لرجولتك .. صارت خطة تحركاته في عقلة .. وقد قام بأهم نقطة .. جعل المربية الماكثة اليوم مع صغيرته في منزل آل زوجته .. تأخذ ابنته وتعود بها لمنزله فهو في شوق إليها .. حتى تعود زوجته في المساء كما يحلوا لها .
بقي أن يتأكد أنها هي التي تقصد شقة عنان الصائغ أحد ابناء صديقات والدتهاالكثر .. الذي علم من لوحة الأسماء على لوحة الهاتف الداخلي أنه هو المقصود .. يعلم به وكم رأه في منزل آل زوجته يعود بأمه .. لكنه لا يعلم زوجته فلم يراها أبداً.. وق فهم من زوجته أن زوجة الصائغ ليست من علية القوم .. هي فتاة استعصت عليه فتزوجها .. وقتها اشتد فخره بهذه الفتاة التي اجبرت رجل فاسد الأخلاق يسبح في بحر العزوبية كعنان أن يتزوجها قائلاً فتاة محترمة .
اغتنمت فرصة وجود أحد عمال التوصيل .. يدلف باحة العقـار بدرجاته .. تحركت نحوه تنصت لصوت صاحب أحدى الشقق يحادثه وفتح له الباب .. مرت قبل الصبي الحامل للحقائب .. خلفه كان جاد الذي وضع نظارته الشمسية تواري عينيه .. ادرك من ملاحظته أن البهو الداخلي مراقب بالكاميرات كما الباحة الخارجية .. حسنا سوف يستطيع نيل هذا الملف .
راقب جمود المرأة ذات الثوب الكشميري اللون يحدد خصرها بحزام بني شديد الدكنة .. محتشم ذو كمين طويلين .. كأنها خرجت لتوها من أحد المجلات التي تخص لملابس العائلة المالكة .. ربما نفس الطراز المتشدد في الملابس .. استقامة الخطوط .. أحتشام صارم .. راقبها من الدرج الاسفل .. التردد كان عنوانها .. لا تبدو كخائنة أبداً.. هي محترمة للغاية .
أخيراً قررت الضغط على الجرس ذو النغمة الناعمة المبهجة التي جعلت قلبها ينتفض مع انطلاقه .. ثم صار قلبها يعزف على وتر واحد يصدر نشاز مزعجاً.. كادت تقسم أن من سيمر بها في هذه اللحظة سيسمعه ويستفسر عن مصدره .. تعرق جسدها كله .. فصارت تمحو العرق من راحتيها في تنورة ثوبها .
سمعت من الداخل خطوات ثقيلة .. وصوت تعلم صاحبه جيداً .. تحدت نفسها في غير تصديق أن من يهتف بالداخل ليس زوجها بل صاحب المكان وأن مخيلتها هي التي تلصق بزوجها هذه الأوهام المتهمة .. نعم حضرت هنا من قبل ولكنها لم تجد الجراءة على الصعود ..
فتح الباب ارتجت عيناه في بداية الأمر بينما عيناها تطوفانعلى قميصه المفتوح حتى خصره .. وسرواله استقبلها بلا حزام يقيده حتى قدميه عاريتان .. ثم صدح صوته :" ماذا تفعلين هنا ؟!!.. انطقي ".
تنطق بماذا؟!!.. تهتف مثله .. مثل الخائن .. نظر للخلف وكأنه يستدرك أن تهمها السابقة ستصبح حقيقة ماثلة أمام ناظريها .
سألته ببرود اقتطعته من جبل الجليد في القارة المتجمدة المفقودة :" معك صديقة أو ابنة خالتك ؟!!.. كما كنت تدعي طوال أعوام قتلتني فيها ".
مد يده نحوها تخيلته سيجذبها لكنه صفعها .. صفعة نالت مثلها الكثير .. لم تبكي ككل مرة .. وضعت كفها على خدها .. هامسة بكل برود :" طلقني .. لن يكبر جاسر مع والد مثلك .. ولا مع أم خاضعة مثلي ".
صدح صوته بفجور :" وقعي تنازل عن كل شيء من حقوقك .. وعن حضانة جاسر .. واذهبي للحجيم ".
غلى دم الأم في عروقها هاتفة :" سوف أصرخ واجمع الناس .. ليدركوا أي الخونة أنت .. يكفيك ما تمارسه من زنا ".
قبل ان يحرك أي ساكن .. كان صوت ناعم يصدر من الداخل :" حبيبي أين انت ؟!!".
كنغمة خرجت عن السياق .. تتردد وتتردد . تلح على عقلها بينما عيناها خرجت من محجريهما .. عندما تقدمت السيدة من الداخل حالها ليس بأفضل منه .. ثوبها البراق القصير فوق الركبة بكثير الذي يكاد ينحسر لأعلى فيظهر لون ملابسها الداخلية .. يشبه قميص نوم بحمالة واحدة .. تحركت تضع يدها على كتفه .. هامسة :" انا هنا للحديث ليس لما تعتقدين ؟!!".
تعرف ميرال الغرابلي صاحبة الزفاف الأسطوري .. زوجة جاد العزازي .. وهل مثله يخان ؟!!.
تحوم داخل أركان نفسها .. تناقش قضية الخيانة وهي هنا أمام خنة حقيقين .
غمغمت هاتفة وقد قامت على حين غرة التقاط صورة بهاتفها لهما بينما الخائنة تضع يديها فوق كتفه وتستند رأسها فوق أصابعها بدلال سافر:" عندما يرى زوجك هذه الصورة سنعرف أي حديث يجمعكما ".
اتسعت ابتسامتها هاتفة :" ربما هو السبب الذي جعلني هنا ".
نظرت لعنان .. هاتفة :" عنان .. سوف أذهب من هنا .. حرام عليك دعها تغادر ".

انتفض هو من مكانه.. سحب من زوجته الهاتف .. ثم لطمها مرة أخرى حتى كادت تسقط أرضاً.. هتفت به :" سافل حقير .. طلقني .. ولا اريد سوى ابني فقط ".
كان في الخارج أخر مطعون الفؤاد ملتصق بجانب الباب .. يحاول انكار التهمة عن زوجته .. التي كل برهة يستمع لصوتها يتردد لكن ما جعله يقتات القهر الاتيان على سيرته لدى الغرباء .
تغادر .. ماهذا الفجور .. المحترمة تضرب والحقيرة تتغنج كالسافلات .. المجاهرة بالمعصية لم يراها مثل هذا اليوم .
قرر أخيراً اقتحام المكان .. في هذه اللحظة كان صوت عنان الرجولي يصدح خلف الباب :" غادري هيا .. ولو اردتي الطلاق .. بريئيني من كل شيء .. وتنازلي عن حضانة جاسر وقتها سيسعدني ان أطلقك .. كنت أكبر غلطة في حياتي ".
كانت على استعداد لقتله .. لكن جاسر كان هناك امام عينيها .. عنان لا يستحق .. جاسر يستحق حياتها لها .
راحت الدموع تغسل وجهها .. تحاول الوصول لمزلاج الباب بصعوبة .. بينما عنان تحرك فاتحاً الباب يدفعها للخارج وكأنه يقذفها .. قذف بها في حصن صدر رجولي عريض .. اسندها في لمحة .. جعلت هيئته عنان يعود للداخل يريد إغلاق الباب .. لولا .. سرعة جاد الذي دفع السيدة للداخل حريصاً عليها ان تظل قائمة .. بينما حذائه كان في فتحة الباب .. عاند عنان حتى يغلق الباب .. بينما جاد كان أقوى .. أو ربما لان الأول يتعاطى شيئاً.. في لحظة انكسار كان احكم جاد قياد الامر .. بينما تالا في الجانب تراقب بصمت في ذهول .. ما يحدث بين الرجلين الذين وقفا كندين في الداخل .. هتف عنان في زوجته :" هل تظنين أنك اليوم هنا مع حماية ؟!!.. ساتهمك بالاستهتار بل سأصعد الموضوع للخيانة ".
وضع جاد اصابعه على شفتيه يكتم ضحكة تكاد تفلت منه.. صارخاً:" هي مستهترة .. وأنت ماذا ؟!!.. هي الخائنة ؟!!.. و أنت ".
ظل يحدق في جاد بعينا تحمل نظرة المذنب الخزي عنوانها همس به جاد في تلاحق :" أحتاج اوراق بيضاء .. أتصدق .. أنا حضرت هنا لأنال أوراق منك ".
اشار له عنان في ارتجاف:" الأوراق في هذه الغرفة .. غرفة مكتبي ".
اشار جاد نحو السيدة ذات الوجة المنتفخ .. باشارة واهنة من اصبعه .. تحركت تبحث في الغرفة الوحيدة على يسار الباب ..وجدت الأوراق الفارغة جلبت مجموعة منها ونزعت قلماً من فوق المكتب .. وجدت صورة ابنها يبتسم بمرح طفولي في إطار ذهبي فوق المكتب .. نزعته تحمي عينيه داخل صدرها .. تحميه من مجرد النظر للخيانة .. وسقوط المثل الأعلى تحت سنابكها الغلاظ .
واقف يراقب الغرفة الداخلية التي اختفت داخلها ميرال .. يتمنى أن تخرج زوجة جاد من الداخل تختفي في أي مكان أو تكون قد غادرت من باب المطبخ .. أدرك أن هذا لن يحدث فقد أغلقه بنفسه ووضع المفتاح في جيبه .. وضع اصابعه على جيبه مستدركاً فضحية اليوم .. كل ذلك من زجاجة الخمر التي دعاها عليها ليتناولا ويتحدثا .. لكنه مدرك أن غايته كانت الحضور هنا.. ليأكل الأسد الغزال التي تمنعت عليه أعوام طوال.. تحرك في الرواق قاصداً الداخل .. لكن جاد هتف به :" إلى أين ؟!!.. هل ظننتني سأتركك لحظة ؟!!".
برود الرجل كان أكبر من إحتماله .. فقد ضمن أن كل امره سيجاب بسرعة .. ظهرت السيدة المحتشمة تحمل أوراق في يدها .. بينما تحتضن صورة لا يراها أحد .. ادرك عنان أنها تحمي صغيرهما كما كانت تفعل دائماً.. لكنه غضب منها لولا حضورها ما كان هذا جميعه قد حدث .. همهم فيها باقتضاب متهم :" هل هكذا ستحمينه مني ؟!!.. سوف أخذه منك .. أنا معي ما يجعل حياته أفضل ".
هتفت في دفاع عن نفسها .. ناظرة للرجل الغريب تستجديه نجدتها :" أنه ابني وحدي .. لك عام كامل لم تراه .. لم تتصل عليه لتعلم كم كبر ولا كيف صار .. الأطفال لا تكبر بالمال .. المال وسيلة للحياة لن يدفئه أو يزيل وحشة الوحدة عنه ".
طوح عنان يده بنزق للخلف مهمهماً في امتعاض :" هكذا أنت دائماً تحاولين إبراز أهميتك أمام الناس ".
كل هذا يظنها استنجدت برجل الشرطة المعزول من خدمته حتى تنال الطلاق فقط .. لا يدرك أن المؤامرة لها أذرع كبيرة .. لذا لم يستفسر منها عن شيء كل غايتهم أن يغادر جاد المكان قبل ان تنادي الغافية في الداخل.
تقدم جاد واضعاً الأوراق على منضدة صغيرة .. مشيراً لعنان الصائغ بالقلم ليجلس :" اجلس ووقع هنا ".
هتف به رافضاً التقيد :" لا .. لن أوقع على بياض ".
ابتسم الضابط البارد .. المستمتع بانتقامه .. حقاً هذا هو الطبق البارد .. لكنه يخنقه يقف في بلعومه كلما نظر لهذا الحقير .. يريد طلاقها ثم المغادرة .. لكن ان كانت المرأة فكرت في ابنها .. أليس هو أولى بهذا منها .. لن يفكر سوى بصغيرته .
هتف في قطبة عنيدة بين حاجبيه :" كل ماحدث الآن مسجل عندي بالصوت والصورة .. لو لم توقع سأقوم بعمل اثبات حالة وستكون أنت ومن بالداخل في مركز الشرطة بعد دقائق معدودة".
ظنها لعبة ما حتى يوقع .. فقهقهة بالضحك معقبا:" تظنني من الأغبياء .. حالة التلبس يلزمها شاهدين على الأقل وانت رجل واحد .. ولا تنفع حالة التلبس بك بعد ان طرت من الوظيفة ".
نظر جاد للمرأة التي ارتعدت هاتفاً في خفوت :" كيف تحملتي هذا الضاحك .. لقد تلى نكتة لتوه ".
امتدت اصابعه نحو عنق عنان هامساً في تهديد أقل ما يقال عنه وعيد :" إذا أنت من فعلها .. الآن لدي سبب جديد لقتبك ".
كانت أصابعه تضغط على غضاريف رقبة عنان الذي بدأ يفتقد الهواء فعلاً.. حاول تحريك يد جاد فلم يستطيع .. صدح صوت تالا من الخلف :" رجاء سيدي .. لا تزيد الأمر صعوبة ".
تركه يتنفس .. ثم قبض على كتفه كطفل معاقب ..أجلسه على المقعد مهاجماً في حزم :" عنا ننتهي لتغادر زوجتك ..أقصد طليقتك ".
حدق فيه عنان بلا صوت .. فقط الضعف هو ما ملك .. مستدركاً أن لابد لليوم ان ينتهي بكارثة .. فلتكم معه هو .. فهو قادر على إعادة تالا للمنزل .. عن طريق أمها التي تخشى من الطلاق اكثر من الموت ذاته .
بدأ ينفذ كل ما يقال له في لهفة على الخلاص .. صار يوقع لها تنازل عن حضانة الصغير .. وقع على التنازل فأخذه جاد وضعه في يدها .. لكنها همهمت :" ليس به سوى توقيعه ليس هناك شهود ".
حدق به معقبا :" هل ستعود في هذا التنازل ؟!!.. حقاً أنت مازلت تستهين بي .. أتصل على محاميك بواسطة المكبر .. امنحه الأمر ليقوم بالتنازال عن حضانة الصغير ويوقع عنك ويجعل شاهدين يوقعان الورق مع طليقتك ".
هتف عنان في استفسار اكثر منه رفض :" لم اطلقها بعد ".
هتف جا به فهو الذي يفرض كلمته الآن :" طلقها إذا".
ثم اردف ببطء :" أجعل المحامي يجمع عدة شهود من مكتبه ليسمعوا جميعاً كلمة الطلاق ".
كانت تتخيلالوضع صار أهزوجة ولعبة .. لكنه بالفعل نفذ .. اتصل بمحاميه اصدر له جميع الأوامر .. بينما الرجل يتعجب فينال الأمر .. ثم يستفسر :" ماذا حدث عنان بك ؟!!.".

أسميتها وطن  (نصف الفصل الرابع كل اربعاء)Where stories live. Discover now