السديم

361 29 33
                                    

- فاطمة؟ فاطمة؟

-...

- فاطمة؟

-...

- ما بكِ؟

تبدد السديم الأزرق. الغشاوة في عيني والقصيدة في قلبي. بدأت الأشياء تكتسي بوجودها المادي وترزح تحت الثقل. ظهرت لها حوافٌ وألوانٌ وأشكال وأبعادٌ ثلاثة، وانتشر في الهواء صوتُ موسيقى. نظرتُ حولي فانتبهتُ إلى المكان. في هذا المطعم التايلندي تتوشح الفضاءاتُ بالأخضر السخي. أقنعة خشبية على الجدار، جسرٌ خشبي عتيق يعبر حوض أسماك ذهبية منتفخة الخدود تلتهم الفقاقيع، إلى جزرٍ من الكابينات الخشبية، في كل كابينة أربع طاولات تقريباً، أزهار أوركيدٌ وبحر خجولٌ يمتد خارج النافذة، المكان جميل أكثر من اللازم.

- ما بكِ؟

- ماذا حصل؟

- هل سمعتِ شيئاً مما قلته؟

- ماذا قلت؟

- هل تمزحين؟ هل كنت أكلم نفسي منذ ساعة؟

- آسفة.

وضعتُ الشوكة من يدي، تكورّت أصابعي وانكفأت إلى باطن كفيّ. تركتُ كوب شاي الياسمينِ ونظرتُ إليه. يجب عليّ ألا أغيب. كيف أشرح له؟ كيف أِرح له بأنني أصاب بالصمم عندما أجلس إلى طاولة الطعام، بأنها كانت طريقتي طوال سبع سنوات لكي أنقذ نفسي من الجوع الذي يمزق باطني؟ كيف أشرحُ له بأنني أغطسُ في غيابٍ غير مسبوق، في السديم الأزرق الأزليّ، بين كثيرٍ من الشهب والثقوبِ السوداء. كان عبثاً أن أشرح، للرجل الذي صار زوجي بالأمس فقط، بأنني موجودة إلى هذا الحد.

- ماذا كنتَ تقول؟

قررتُ أن أكف عن الأكل، حتى أمنع نفسي من الارتحالِ في الغبشِ الممتدّ إلى صدري.

- كنتُ أقول بأن الزواج حدث بسرعة.

- نعم.

- لم تسنح لنا فرصة للتعارف.

- إنها تقاليد العائلتين.

- أنا أحترم التقاليد.

- حقا؟

- نعم. إنها تنظم أموراً كثيرة.

- أنا لا أحترمها.

وبدا أنه بوغت.

- ماذا تعنين؟

- أعني أننا نرزح تحت ما يكفي من الأقفاص. لو أننا التقينا قبل الزواج - مثلاً - لربما تكشفت لكلينا أمور كثيرة عن الآخر. أنت تعرف، شيءٌ أفضل من زواج " امسح واربح " هذا .

ابتسم.

- على الأقل أنا ربحت.

- هل تمزح؟ 

- ولماذا أمزح؟ فعروسي حلوة.

ضحكتُ. لم أعد أسمع هذه الكلمة في حياتي. قرأتها مرة، في رسالة، في حكايةٍ أخرى، في نبضةٍ مارقة، في قصيدة..

- فاطمة؟ فاطمة؟

-...

- فاطمة!

- آ.. أسفة.

- أين تغيبين؟

- لا .. لا أدري.

- هل سمعتِ ما قلته؟

- لا.

- قلتُ: حدثيني عنكِ حتى أعرفكِ.

- سقراط.

- عفواً؟

- سقراط قالها.

- سقراط قال ماذا؟

- تكلم حتى أراك.

وابتسمتُ. هتف مندهشاً:

- أنتِ مثقفة!

 - لأنني أعرف مقولة شهيرة لسقراط؟

- لا تستهيني بالأمر.

- ليس ثمة معنى في أن تعرف سقراط وتجهل MBC2.

انفجر ضاحكاً وصفق بيده وهو يهز رأسه. لم أكن أعرف أنني مضحكة.

كبرت ونسيت ان انسىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن