الزهور الجنائزية || Funeral f...

By LaraAshraf8

4.1K 162 72

دفع عبد الله الباب و دلف للداخل بحذر حين التقط بصره امرأة مجهولة تزحف على بطنها تستجدي الرجل....أعني غول الأس... More

هلا قضيتِ الليلة معي؟
القبعة الذهبية
الشيطان الذي لا يقهر
من تكون حقا؟!
هلا ملأت كأسي؟
الصدق قد يقتلك حقا
ألا بأس بالحب؟!
المترصد و القط الخطير
الفرار من الشيطان
حطام الفتاة الصغيرة
رجل نازي و امرأة يهودية

لمَ لم تقتلني؟!

292 14 0
By LaraAshraf8

"هل تمانع إن جلسنا نتسامر معا؟"
سألت بنبرة مهتزة و طالعته بابتسامة مصطنعة بكل تأكيد...لكنها ليست نفاقا.
كان متجمدا تماما على وضعه الذي كان عليه قبل أن تتحدث كتمثال في وسط المدينة...رمش عدة مرات مستوعبا ما قالته بصعوبة من تأثير الكحول ثم وضع كأسه على الطاولة و أشار لها بحركة سريالية بالموافقة.

نزلت درجات السلم بسلاسة ثم حملت زجاجة الخمر -التي كان قد شرب نصفها تقريبا أو أقل- و أفرغتها في إناء الثلج الكبير الموضوع بجوارها ثم نظرت إلى عينيه الغائرتين و فسرت له ما دفعها لهدر ماله بهذا الشكل "عفوا على التجاوز لكن دعنا نستمتع بكامل وعينا..لا أرى فائدة من قضاء وقت جيد ثم نسيانه تماما في الصباح بسبب الثمالة"

"لكنكِ بالتأكيد لا تجيدين الرقص؟"
طالعته ببلاهة لوهلة ثم تركت ما بيدها و استفسرت بنبرة شديدة "ما الذي تعنيه بالـ'رقص' سيد عادل؟"
لم تخفَ عليه بالتأكيد تلك الصيغة التي شددت بها على كلماتها بل و أعجبه كيف يمكنها أن تكون قاسية و حادة في ظروف مثل التي التقاها فيها!
في الظروف العادية ينبغي لها أن تكون ممتنة لتركه إياها في منزله مرتاحة بلا "عمل" بينما سيدفع لها في الصباح... لكن بدلا عن ذلك يتلقى زجرة منها لتصورها نوعا مهينا من الرقص لم يعنيه فعليا.

فكر أن نظريته بشأن كونها تنحدر من أسرة نبيلة هي نظرية حقيقية حيث تفرق بين الرقص "معه" على مقطوعة موتسارت أو الرقص "له" على الطبول الشعبية فكلامها لا يعدان بالنسبة لها سلوكا واحدا تختلط فيه مع رجل و تلمسه بلا داع..
شرح لها مقصوده و ما يريده حقها فارتخت تعابير وجهها كما توقع و سألته أن ترفع صوت الموسيقى كي يصح الرقص عليها....في الحقيقة لم يمانع و تفاجأ من رغبتها في مشاركته رقصة سريالية على قداس الموت كما لم يتسن له فعلها مع امرأة قط..
تقدم منها بابتسامة بلهاء لا يستطيع التخلص منها بسبب السكر و التقط كفها النحيف بين راحته و بالأخرى حاوط خصرها و انسدلت أجسادهما في رقصة ناعمة على الألحان المنسجمة مع صوت المطر....نعم لقد أمطرت بالخارج بينما الضباط يراقبون المنزل و يرسلون آخر الأخبار لعبدالله الذاهل في مكتبه! كان بيت عادل الكبير يعتبر تقريبا شُرَفا زجاجية تطلع الأحباب و الأغراب على حياته و نزواته الليلية الغريبة.
حتى الآن لا يوجد دليل قاطع على كونه مذنب، ولا سبيل إلى اتهام رجل بمكانته دون بيِّنة... ليس الأمر أن عبدالله يرغب بالقبض عليه فقط لأنه يمتنع عن الانتفاع بماله الذي ينفقه على دليلة و وسيطها بل يفضل أن يأخذ وقته الذي دفع لأجله بطريقة أخرى.... الرقص مع بائعة هوى مثلا في أجواء شاعرية!

صارت حركات جسديهما أقوى و أسرع حين تعالت النغمات و الإيقاع، و الحق أن عزيزتنا لم تكن أقل انبهارا بالبراعة التي تحرك بها جسد ذلك الرجل و هو ثمل من اندهاشه بها و بسلاسة تجاوبها مع ارتجالاته و حركاته العنيفة كأنهما صارها جسد واحدة ملتحم يجوب القاعة ذهابا و إيابا مثل زهرة طائرة مع رياح خريفية لطيفة...

**********

ارتشفت من كوب الشاي الموضوع أمامها رشفة صغيرة ثم شرعت في سرد ما حدث الأمسية الماضية دون أي تحليلات و فرضيات خاصة منها كيلا يقوم الرقيب بتحطيم وجهها بقاعدة المسدس كما حذرها منذ قليل...

"بعدما انتهينا من الرقص جلسنا نتحدث، و حاولت أثناء ذلك استخراج معلومات بنه بطريقة غير مباشرة أثناء سكره، لكن الأمر كان صعبا للغاية لأنه رفض البوح بأي شيء عن حياته عدا شيء واحد..."
أعادت خصلاتها المبللة بالعرق البارد للخلف بأناملها الشاحبة و ازدردت لعابها كأن ما سترويه بالغ الأهمية و يحتاج لاستعداد ثم استطردت..

"قال أن له أب يعتقد أنه مختل مثله و يقوم بأمور غريبة مؤخرا. هو يعتقد سلوكياته الأخيرة تلك_أعني والده_رائعة وفنية لكنه لم يخبرني ما هي"
نهض عبدالله عن مقعده و دار حوله مقتربا من مقعدها ثم انحنى بركبتيه أمامها بانتباه شديد و طالعها مباشرة في عينيها بينما يسأل "هل تحدث عن والده بصيغة الحاضر؟"
أومأت ببطء و نظراتها المترقبة ترمقه بطريقة لم تعجبه حقا...انفعاله عليها قبل دقائق لم يكن بسبب عيب في عملها أو حديثها إنما بسبب الضغط الذي يتعرض له لشعوره بالمسؤولية عن حياتها و سلامتها. ليس معتادا أن يهتم أحدهم لحياة غانية..لكنه يهتم و يعتقد اعتقادا مصدقا أنها امرأة عفيفة لم تقم ببيع نفسها بإرادتها...
حينما جاءت إليه في المرة الأولى كانت خائفة و تعتقد أنه ملجأها الوحيد...قالت أنها تود حماية الشرطة و تود التدليل على رجل عصابات حصل عليها من شبكة إتجار بالبشر و هي لا ترغب في هذا العمل بل و تتضرر تضررا جسيما منه! عرف هو بعدها أن ذلك الرجل الذي تجاسرت هي عليه و أبلغت عنه الشرطة كان المجرم المطلوب على قمة لائحة مكافحة المخدرات و قضايا القتل المرتبطة بالجنس...!
نعم، كان تخمين عادل العشوائي بشأنها صحيحا و دقيقا بطريقة مذهلة...كل شيء توقعه بشأنها عدا كونها تحدرت من أسرة فقيرة كان صائبا لكنه حتى الآن لا علم له بهذا.

نهض من القرفصاء و تجول بهدوء حول نفسه..واضعا يده على جبينه كي يستطيع التفكير. لا يعتقد أن تلك الكلمات التي هرتل بها عادل في سكرته كانت عبثا أو بلا معنى، إنما الأمر خطير و متصل برجل من المفترض أنه...ميت..

"رشاد العمري" نطق بها ثم نظر إليها و استطرد موضحا كأنه يتحدث إلى نفسه "ذلك الرجل ليس هينًا لكنه مات منذ سنين..لابد أنه خيال في عقل عادل المختل ينفذ به الجرائم....أو أنه - وذلك أسوأ - بالفعل على قيد الحياة في مكان ما و يرتكب تلك الجرائم"

"و ماذا سيحدث إن كان ما تقوله سيدي؟"
توقف عن الدوران حول نفسه و بدأ يشرح باندماج كأن هذا السؤال تم طرحه داخل عقله "سيكون علينا العثور على المرحوم لمعاقبته"

طالعته بتفهم و هزت رأسها عدة مرات ثم تساءلت عما يجب عليها فعله بهذا الشأن كي تكون ذات فائدة...الخلاص من تلك المهمة الأخيرة كان بمثابة الخروج من الجحيم بالنسبة لها، فمع أول صوت للأصفاد يكبل يدا المجرم و معه القس الذي دمر حياتها تكون قد تخلصت من كل تعاسة في أيامها و تعود براحة لتنام ليلا و تصحو نهارا...و ذلك لمن لم يدرك يعتبر حلما تتمنى تحصيله بعدما صارت أوقاتها ليلا دائما لا ينجلي، فالعمل لا يشتد إلا في الليل..و مادامت - لسبب نعرفه فيما بعد - لديها حرية رفض العمل خارج المكان... و المقصود به الدعارة... فهي على الأقل مجبرة على التواجد ك سمك الزينة أمام الزبائن كي تستعر رغباتهم في المكوث أطول.

"سيكون جيدا لو أغويته بأي فكرة مجنونة ليثمل مجددا معكِ... لكن تلك المرة..."
انحنى نحوها بنظرات ثاقبة اخترقتها و منحتها شعورا شديدا بالرعب ثم استطرد مثقلا كل كلمة من عباراته "لا تدعي عاطفة نسائية ملعونة تتملكك بشأنه و اجعليه يثمل جيدا....لقد مررت ما فعلته من منعه من الشرب المرة الماضية بإرادتي، لأنني أعلم أنكِ فتاة صغيرة ساذجة"

توقع منها كل رد فعل إلا أن تبتسم ابتسامة خفيفة واهية بينما تجيب بغمغمة بالكاد سمعها "يبدو هذا لطف منك، أنت ثان شخص يصفني بالساذجة بعد عادل"
رفع حاجبه مستفهما فطفقت تشرح مقرنة شرحها بحركات صغيرة من يديها "الأمر أن ذلك الوصف لا يليق بي...أنا الآن متسخة بالذنوب و سأبقى هكذا إلى الأبد، لذا فسذاجتي أمر غير مطروح"
قالت العبارة الأخيرة بصوت خفت فجأة حرجا و خجلا مما تنطوي عليه كلماتها من معانٍ لا ترغب امرأة أن توصم بها!

بطبيعة الحال و كما هو معتاد من سلوكيات الرقيب المتباينة فقد تراجع مبتعدا عنها بضع إنشات و مسد عنقه كمن يقف مذنبا أمام شخص ظلمه و جار عليه جورا لا فكاك منه...
أشار لكأس الشاي القابع أمامها على مكتبه يحثها على إنهائه و استكمل شرح خطته كأنها لم تنطق بكلمة منذ لحظات

"لا تأخذنكِ شفقة ولا تعاطفا مع عادل..إن كان مجرما هو يراك فريسته و إن كان بريئا - و ذلك مستبعد عندي - فأنت لا تظلميه شيئا، بل تساعدينه ليتبرأ اسمه و سمعته من شكوكنا الضالة"
قد يبدو حديثه للسامع الذي لا يرى تعابير وجهه سخرية و استهزاءًا لكن تعابيره الجادة الجامدة كانت تخبرها أنه لا يمزح مطلقا بشأن ما يقوله.
رغم ما ظهر لها في كلامه من شفقة عليها بعدما تفوهت بتلك العبارات المحرجة إلا أنه لا يظهر لها ذلك أبدا ولا يعاملها معاملة المثير للشفقة مهما يحدث!

نهضت من مجلسها بعدما ارتشفت آخر ما في كأس الشاي و شكرته ثم تمتمت كختام لمحادثتهما "أعدك ألا أخيب ظنك سيدي...أنا لا أشفق مطلقا على رجل قتل نسوة بريئات فقط لنزوة في نفسه"

هز رأسه داعما لكلامها مع ابتسامة جانبية صغيرة لا تكاد تظهر و راقبها تنصرف في أدب كما جاءت...
يعلم في قرارة نفسه يقينا لا تشوبه شائبة أنها بريئة من تهمة الزنا التي تم توجيهها إليها في صمت من زملائه حين جاءت إليه أول مرة وقررت مساعدة الشرطة لقاء العفو القانوني عنها. كانت صغيرة الحجم، هزيلة البنية، تعرضت للتعذيب بشكل لا يصدقه عقل لكنها حاربت خوفها البدائي من معذبها و جاءت عازمة على إنقاذ نفسها و إلقائه في التهلكة...
لا يكاد ينسى صورتها حين قامت بسرد قصتها الدرامية أمامه في حضور صديقه المقرب فقال لها ساخرا "إذا أنت ليلى العفيفة و ذلك الرجل الحقير تسبب في كل ما أنت فيه من مجون؟ هذا غريب للغاية فاسمك و صورتك لدينا على لائحة عشيقات "ساكوراجي توكيچي" الفضليات اللائي قربهن من عرشه وأحبهن للغاية"

لم يدرك حينها ما الذي جعلها تنهار باكية كليلة ماطرة لا تنتهي....لكن رفيقه لم يرحمها واستمر حتى لحظتنا تلك يسخر منها بلقب "ليلى العفيفة" بسبب انعدام الأدلة على كونها تم إجبارها على ذلك العمل...بل أن القرائن التي ترجح فعلها هذا بإرادتها كانت أقوى، فهي  تنحدر من عائلة "الأميري" الأرستقراطية التي سقطت عن برجها العاجي إلى حضيض العوز و الفقر بسبب الاحتيال عليهم من رجل مجهول!
كانت امرأة نشأت في نبل و رخاء، لذا فالميل للحصول على المال مجددا - بأي طريقة - كي تعود للطبقة التي تنتمي لها من جديد يعتبر أكبر من غيرها...

مسد وجهه و عينيه مخففا الضغط الذي أصابهما إثر تذكره تلك الأمور وشبكها مع ما أخبرته أن عادل قاله لها قبل قليل...كل فكرة تقوده إلى فرضيات و نظريات لا حصر لها بشأن ما قد يريده عادل منها إذا ما كان يعلم تلك الأمور....!

نهض من مقعده و التقط معطفه عاقدا العزم على الذهاب للتحري جيدا حول وفاة والد عادل الغامضة كيلا يتشتت بحثه و تركيزه على أكثر من شخص، فلعل هذا ما يريده.

************
"يمكنني فعلها...عليَّ فعلها..بوسعي تجاوز تلك الأفكار السلبية"
رددت تلك الكلمات عدة مرات كالدمية المعطلة أثناء تجولها بشكل شديد التوتر برداء الصلاة فوق الوشاح الذي بسطته لتصلي عليه...كانت ترغب حقا في العودة إلى ربها كما اعتادت لكن شيطانا شديد القوة يقف أمامها ويقنعها بكل بساطة أن الصلاة حكر على الطاهرات العفيفات و من لا ذنوب لهن، أما هي فمطرودة من الجنة للأبد..محرومة من إمكانية التوبة حتى تموت،، ذلك بالطبع بسبب ما اقترفت يداها من الخطايا...
في نفسها آمنت أنه لا ينبغي لها الانصياع لتلك الوساوس و عليها أن تكتسب شجاعة و قوة كي تقف أمام ربها مجددا بعد هجر طويل منها...لكن ذلك الشعور القوي بالحقارة و النتن تلبسها وبذل كل جهد لألا تقترب من ذلك المحراب المنيع الذي يحمل النفس على التماسك أمام الشدائد و التمسك بالمبادئ و القيم...
تملكها غضب شديد من عجزها عن الصلاة مثل بقية البشر لأي مانع خيالي رسمته لنفسها فتحركت نحو الوشاح الموضوع على الأرض في اتجاه القبلة و وقفت أمامه ثم شرعت في الصلاة.
كانت الأجواء هادئة في الخارج بسبب نوم بعض رفيقاتها و غياب بعضهن للعمل فاستشعرت لذة غريبة تسللت بين أوصالها لم تستشعرها من قبل! تلك اللذة مضى على آخر مرة أحست بها سنوات و الآن تعود إليها كالطفل الشريد الذي تم احتضانه...الكثير من البكاء لكنه ليس كمدا أو تعاسة..بل بسبب الخروج من ألم و وحدة الأجواء الماجنة العفنة التي حُبست روحها فيها لمدة لا بأس بها...

تكاد تجزم الآن أنها لا تستطيع استحضار حقيقة ما صارته في تلك اللحظة و كل ما يمكنها استحضاره هو الرغبة في ألا ينتهي ذلك الإحساس العذب أبدا.....إلا أن أفكارها كانت سرابا، فبعد الحركة الثانية من رأسها للتسليمة الأخيرة من صلاتها ظل قلبها باردا كأنه اغتسل من نهر جارٍ و لم تأخذ الصلاة معها المشاعر الجيدة بانتهائها..!

نهضت من مجلسها كمن لاح أمامه سراب الماء في الصحراء وكبرت ثم دخلت في ركعتين أخريات من الصلاة..عاقدة عزمها ألا توقف عن تكرار هذا إلا حين يغمرها بأكملها ذلك الطهر الهادئ و السكينة

************

"يا سيدة القصر...استيقظي يا امرأة لقد جلبت معي لكنَّ جميعا الكباب و العصائر"
فتحت عينيها و دارت بها من حولها فتذكرت أنها كانت تصلي حتى وقت قريب ثم ارتخى جسدها و انغمست في نوم عميق في مكانها....نوم بلا كوابيس أو ألم، فقط الراحة و الهدوء حتى أيقظها صوت 'مريم' الجهوري و أجبرها على النهوض لمشاركتهم الوجبة و الأحاديث و المرح...ذلك الوقت من النهار هو وقتهن الذي لا عمل فيه لذا يستغللنه في تغيير الأجواء و اللعب...

**********

"كيف وجدتني؟ هل أنا جيد في هذا؟ هل ستعودين لشقتك و تخبرين صديقاتكِ أن الزبون كان وسيما؟"
تقدم منها حاملا في يده مطرقة بوجه مدبب و الدماء تغطي حُلَّته السوداء الأنيقة.....كانت تتراجع على مرفقيها وتبكي بكاءًا جنونيا يكاد يقطع أنفاسها! لم تتوسل لأجل حياتها بعبارات مفهومة...إنما فقط أحاديث متقطعة تعده بها أن تفعل له ما يشاء لقاء تركها حية...
ثيابها مخضبة بالحمرة القانية و أنفاسها لا تتجول في رئتيها بسهولة بسبب الإصابة، لكنها مازالت حية و ترغب بالعيش مدة أطول...

"أرجوك....أعدك أن أفعل ما تطلبه...فقط أريد أن أعيش"
ظهر الضيق و التأفف الشديدان على ملامحه بالتوازي مع انحنائه أمامها بركبتيه...انعقد لسانها حين نظرت لعينيه و لم ترَ فيهما إلا قتامة الموت و التعطش للقتل و التعذيب! كانت أنفاسه برائحة السجائر الغالية التي تشاركها معها قبل دقائق معدودة في سيارته و بشرته البيضاء شاحبة كرجل نهض للتو من قبر لا يزوره أحد!

"لا أدري كيف أمكنكِ حتى أثناء الموت التفوه بتلك العبارات القذرة؟ ألا تريدين استغفار ربكِ مما تفعلينه؟ ألا ترغبين في التوبة حتى؟! كان على عزيزتي دليلة رؤيتكِ لتبصق عليكِ"
رفع المطرقة ثم هوى بها فوق ركبتها محطما كل عظمة أو لحما وقع تحت ضربته...دوى صوت صراخها في المكان بأكمله و سقطت في مكانها تبكي و تنتحب. الألم الذي يستعر في بدنها صار حارقا أكثر مما يمكنها التحمل و مظهره المخيف فوقها يجعلها ترغب في الموت فحسب كي لا ترى وجهه.

لمعت قبعته الذهبية تحت ضوء القمر حين سألها بصوت هادئ تماما و بعينين خاليتين من كل شفقة و رحمة "سأعيد السؤال عليكِ بعدما منحتكِ تلميحا و ركزي تلك المرة لأنها الأخيرة قبل أن يكتشف حضرة الضابط العفيف جثتك هنا"
هزت رأسها عدة مرات بأمل كاد يرفعها للسماء و نظرت إلى عينيه الميتتين بعيونها الزمردية الراغبة في الحياة...لكن في تلك اللحظة بالذات حين أمعنت به فقدت كل أحلامها مع هبوب الرياح الباردة على وجهه....بدى لها كشيطان جاء يعذبها بذنوبها أو يفتنها قبل لحظاتها الأخيرة في ثياب الزنا و الفجور!

"ماذا كنت لتفعلي لو أنني تركتكِ الآن و رحلت إلى الأبد؟"
"سأصبح فتاة جيدة و أكون مطيعة لكل ما تريده مني.....سأفعل ما تشاء لو عفوت عني"

تدلى رأسه في مكانه بيأس وتنهد بعمق كأنه قد عقد العزم على شيء لا رجعة فيه.
توسلاتها الباكية بهلع سببت له ألما في الرأس أراد التخلص منه بأسرع ما يمكن فمنحها ضربة بكل قوة في جسده على الرأس هشمت جمجمتها لقطع صغيرة بلا ملامح!
تنفس الصعداء بعدما سكنت الضحية تماما و رفع بصره للسماء متنعما بالسكون الذي أحدثه خروج روحها من جسدها أمامه مباشرة..
نهض عنها و مسح المطرقة في طرف ثيابها الفاضحة ثم جر ساقيه إلى سيارته في هدوء تام....لم يشعر براحة كتلك منذ قتله ذلك الشاب الذي كان يهاجم الفتاة في الطريق..بل لا يتصور كيف استطاع تحملها حتى الآن بينما تعامله كأنها ستقوم بعبادته فقط بسبب المال الذي أنفقه عليها و شكله؟!
تحركت السيارة في طريق خطط له من قبل غير قابل للترصد من كاميرات المراقبة و هو داخلها يدخن سجائره على اللحن الدرامي لقداس الموت.

********

التقطت زجاجة الحليب من أعلى الرف ووضعتها في السلة الصغيرة التي تتسوق بها مع دموعها الهادئة....الألم يطرق جسدها من كل صوب و أنفاسها تكود تكون صعبة المنال بسبب الرضوض و الإصابات!
مسحت دموعها بظاهر كفها لكن سماءها لم تتوقف عن الأمطار حتى أتاها صوت واجف لكنه أدفأ من أيامها

"دليلة؟! لماذا تبكي؟"
التفتت دون حتى أن تتحضر ذهنيا لمحادثة كتلك مع المتهم الأول في قضايا القتل المتسلسلة الأخيرة وطالعته بعينين تملأهما عبرات لامعة...

قالت بعدما تجاوزت صدمتها من رؤيته بلحظات "عفوا...إنه لا شيء..فقط كما تعلم نحن النساء نحب التعبير عن مشاعرنا"
بدت نظراته المستنكرة غير مصدقة لكلامها و بدأت عيناه تجولان فوقها بتفحص دقيق....لا يعلم إن كانت مجبرة على التسوق لذا تبكي أم أن تلك العلامات الزرقاء و البنفسجية على كل ركن ظاهر منها هي السبب! اقترب منها أكثر فتراجعت وبدى له منها نوعا ما شعور بالخوف و الترقب. لم يكن هو من ضربها إذا لما توجه مشاعرها السلبية تجاهه؟!

"من فعل لكِ هذا؟ أخبرتني سلفا أنكِ تملكين ورقة رابحة صغيرة ضد القس تجعلك لا تعملين في مثل هذا الأمور..."
كان غاضبا...هذا أكيد...لكن الأغرب هو أن ترى الشفقة عليها و الاهتمام لأمرها في عينيه بوضوح و بلا ريب! لقد أكد لها عبدالله أنه معتل نفسيا و عقليا و أن مسألة العواطف لديه معدومة.....فما هذا الذي تراه منه الآن؟ تمثيل؟ لا تعتقد...

كان يتكلم كثيرا لكنها لم تسمع جل ما قاله بسبب شرودها و ضياعها مع سلوكياته المتناقضة....يبدو كمن على وشك التصرف حيال ما حدث لها و اتخاذ ردود أفعال قاسية، لكنها لا تمنحه معلومات كافية و تكتفي بالتحديق به كأنه سمكة قرش بلا ذيل!

أخرجها من شرودها بهزة خفيفة من كتفها و صوته الهادئ بغرابة يحدثها عن مقربة أكثر من اللازم...

"دليلة..هل أنت بخير؟ أخبريني من صنع بكِ هذا و أنا أعدك أن أسوي الأمور؟"

"لا بأس، الأمر بلا أهمية حقا أنا اعتدت على ذلك"
قالت جملتها الأخيرة وأولته ظهرها ثم انخرطت في موجة عنيفة من البكاء.....لا يدري إن كانت تحسرت على ما آلت إليه نفسها العزيزة أو أن حقيقة كونها اعتادت على هذا جرحت كبريائها..لكن شعوره بالغضب صار في أعلى مراتبه و هي تخفي الأمر لسبب يجهله!!
أليس في مصلحتها أن تستغل ذكوريته التي وضعها الله فيه و تخبرها كم عذبها ذلك ال"مجهول" كي يذهب و ينتقم منه لأجلها؟ فما بالها إذا تفضل التعرض للضرب ككرة قدم دون كلمة واحدة؟!

توقف عن التعامل كرجل ناعم فقد هرموناته و سحبها بهدوء من ذراعها إلى خارج المتجر...فتح باب سيارته دون كلمة و أدخلها بحرص على ألا يصطدم رأسها بالسقف ثم أغلق الباب و استقل مقعد السائق دون كلمة واحدة..
كان صمتها التام غريبا بالنسبة إليه فهي حتى لم تسأل عن وجهتهم! نظر لها بريبة لا إراديا فرآها تطالعه برعب لم يراه في عينيها من قبل....رأى نفسه في عينيها كمسخ على وشك مهاجمتها و ابتلاع كبدها...و ذلك لسبب ما لم يرُق له.
أوقف السيارة فجأة فارتدت أجسادهم مع شهقة خفيفة منها و احتضان حقيبتها الصغيرة بكل قوتها....نظرت مباشرة إليه و تلك المرة دفعها الشعور بالغضب و الضغط إلى الصراخ عليه بعنف لم يتعرض له منذ توفيت والدته "ما الذي تفعله أيها الحقير بحق الله؟! أتلعب بأعصابي لتشعر بالمرح؟ أنا لست امرأة لذيذة الطعم إن كنت تعتقد هذا يا وغد!"

لا يعلم صدقا ما الذي دفعه للابتسام لكن شعوره الذي ملأ صدره و عقله في تلك اللحظة لم يكن طبيعيا مطلقا....كل خلية في جسده أصابتها حرارة حماسية و قشعريرة تطالب فقط بالمزيد من ردود أفعالها غير المتوقعة. لا بأس إن كانت تشتم بألفاظ أرستقراطية مهذبة لكن على الأقل سيسمع تلك النبرة ويرى تلك العينين الشرستين اللتين افتقدهما منذ سنوات...

طرق أحدهم على نافذة سيارته من جهتها فالتفت كلاهما إلى صوت عبدالله الأجش يسأل كأنه يجهل حقا من يكونا
"هل أنت بخير يا آنسة؟ صوت شجاركما لا يبدو طبيعيا"

حسنا..بالتأكيد صوت شجارهما كان عاديا لكن بعد بضع دقائق إن تحمس عادل أكثر من اللازم قد لا يكون عاديا...لا ينبغي له المخاطرة بها بعدما وعدها أن تكون السنة القادمة تأكل الكعك بجوار مدفأة منزلها القديم مجددا، كلمة الرجل لا يمكن أن يتحلل منها إلا بدمه.

"نعم سيدي، أنا تعرضت للاختطاف لوهلة لذا سأهرب الآن"
ترجلت من السيارة بأسرع ما أمكنها و ركضت من تحت ذراع الرقيب تاركة الباب مفتوحا بينه و بين المشتبه به في أسوأ قضايا القتل التي مرت على بلادها..يطالعان بعضهما ببرود و بلا تعابير حقيقية على وجهيهما...

*************

"أعتذر على ما بدر مني حضرة الرقيب"

مسح وجهه بكفيه وبدى عليه بلا ريب الإنهاك و التعب الشديدين حين أجابها بغير ما توقعت..
"لا عليكِ...كان خطأي فأنا أهملت ترصده و تتبعت أثر أبيه في التحقيق حتى فاجأكِ بهذا الشكل"
أشار لها بلطف لتجلس في مقعدها فاستجابت ببطء يدل على شرودها و استنكارها لرد فعله بالتأكيد. في الظروف العادية لا يكون رقيقا معها لذا الأمر أغرب بكونها قد أفسدت الخطة و هو لا ينهرها كما يفعل عادةً! اليوم هو ليس في طبيعته و هذا ظاهر على نبرة صوته و طريقته في الكلام لكنها حاولت تجاهل الأمر لأنه ليس من شأنها..

ساد الصمت مدة لا بأس بها حين كانت تنتظر منه أي كلمة توضح ما توصل إليه بالبحث، لكن ظل صامتا ينظر لحذائه و يهز مقعده ذو العجلات يمينا و يسارا لبرهة.
افتتح الحديث بتعليق ساخر غريب بابتسامة خفيفة "أنتِ صبورة للغاية..."
نهض من مقعده و طلب من الشاويش تحضير الشاي لهما ثم عاد إليها بابتسامة أوسع وأردف "أنا صامت منذ نصف ساعة تقريبا و أنت لا تتكلمين! أنت امرأة غريبة لذلك تجذبين قاتلا ببشاعة عادل أو أيا كان....عادة لا يتحمل الأشخاص ذلك الصمت الرهيب خصوصا في حضرة شخص ذي سلطة و يلجأون للحديث بأيا كان، أو في التحرك بتوتر و النحنحة المتكررة...أنتِ فقط تركتيني أطالع حذائي و أنت تنظرين إلى يديكِ بسكون و هدوء"
تبسمت بعفوية و حرج خفيف لكن دون أن تجيبه كما تفعل عادةً....تستمع إليه بتركيز شديد و اهتمام كأنه يملي عليها قواعد تحرير العالم ثم تصمت وتهز رأسها وحسب....لعلها صارت تتجنب الرد عليه لأنه أحيانا يسخر من كلامها لكن الأمر لم يعد يعجبه.
تجاهل الأمر برمته و ابتسم لها هو الآخر كأن لغة الابتسام أعجبته ثم جلس على الكرسي المقابل لخاصتها و تنهد بعمق سائلا..
"لمَ آلت الأمور مع عادل لشتمه والصراخ عليه بينما حياتك في خطر؟"

"لم أكن في مزاج يسمح بالألاعيب التي يلعبها معي بمزاجيته....هو فقط يريد أن يراني أقاوم البِغاء ليشعر بتحسن"
طالعها بعينين ثاقبتين وتأمل ما قالته للتو دون أن تدرك أهميته ثم استفسر عنه بهدوء طالبا توضيحا مفصلا....

دلف الشاويش إلى الغرفة و معه الشاي و في أعقابه "خالد" الضابط الذي يستمتع حتما بالسخرية منها و مضايقتها كلما سنحت الفرصة..
لم ينتبه الأخير في البداية لوجودها و تكلم فورا بنبرة حادة منفعلة لا تقبل المزاح...
"هل علمت بالأمر؟ تم اكتشاف جثة أخرى لفتاة مجهولة الهوية على طريق الإسكندرية....ذلك الوغد غير مكانه و لم يغير طريقته..إنه هو"

Continue Reading

You'll Also Like

3M 146K 39
وَدُون أن أَدرِي ، كُنْت أَهوَى بِـ كلمَتي لِنَفس اَلموْضِع اَلذِي هوى إِلَيه إِبْليس حِين رأى أَنَّـه خَيْر مِن آدم . لا احـلل اخذ الروايـه ونشرهـا...
2.2K 260 6
بين روعة الغردقة وسحر الجونة يقع منتجع سياحي أبسط من أن يقال عنه فندق، مكان مشترك بين العديد من رجال الأعمال كل شخص يملك عدة غرف، ويأخذ نسبته نهاية ك...
1M 38.5K 50
تقدمت عليه واني احس الخوف والرعب احتل كل جسدي وقلبي أحسه توقف واني اشوفه جالس گدامي مثني رجله وخال عليه ايده والايد الثاني ماسك رأسه متوجع قربت عليه...
28.7K 3.3K 15
هل هذا رمادنا سويًا؟ أم أنك فقط تزفر في حريقي؟