والتقينا (5)

Start from the beginning
                                    

🌺اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌺

وعندما عسعس الليل بظلامه، كان بلال يعود تنوء ملامحه بهمٍ جثيم يجثم علىٰ صدره، رغم ذلك كان متبسَّم المحيا، منشرح الملامح في رضى تام، وقد أبلغ سُهير في فرحة أن تتجهز لعرسها الذي اقترب..
ثم أنبأهم بمكوثه في السيارة حتى الصباح، بسبب تواجد إسراء.
أحست إسراء بتأنيب الضمير، فلحقت به وقبل أن يدلف إلى سيارته توقف على صوتها المنادي باسمه في رقة، فأغمض عيناه مستغفرًا، ورد دون أن يجيبها، بإيجاز:
_خير، بلال كره اسمه من يوم ما شافك!
فابتلعت إهانته وهي تهمس في توتر:
_هو أنت هتنام في العربية بسببي؟
فرد بضيق:
_وهو في سبب غيرك!
ثم لم يلبث إن غضب من نفسه بسبب معاملته الحادة لها، فنفخ في حنق، ولان صوته قليلًا، ثم أردف يقول:
_نفسي أعرف أنتِ بجد وراءكِ إيه؟ إزاي جالك قلب تقلقي والدك عليكِ بالشكل ده؟ قلبك مرقش ليه ولا أنتِ مفكيش رحمة، دا أنا صعب عليَّ وأنا بتابع البرنامج اللي استضافُه..
قطع عبارته، ضحكتها المنطلقة بصوتٍ عالٍ، ممزوج بالوجع، فلم يجد بُدًا من الإلتفات إليها، ورأى رأسها المرتفعة مع ضحكاتها العالية، وتساؤلها بصوت ضاحك متألم:
_كان بابا ماله بالله عليك قولي؟!
وعاد رأسها يرتفع مقرونًا بضحكتها الصاخبة، وتفاجئ بلال عندما سكتت بغتة كما ضحكت على حين غرة، وتلاقت عيناه بعينيها المشبعتين بالحزن، وراقب خطين من الدمع التي أخذت بالإنحدار على وجنتيها، حاول أن يغض الطرف عنها لكن قلبه لا يغض، فازدرد لعابه في ثقل، وسألها بحيرة:
_بتضحكِ ولا بتبكِي؟! إيه اللي يضحك في كلامي!
فأمعنت النظر في عينيه، ثم بثت له شجون قلبها، قائلةً:
_اللي يضحك إني مصعبتش عليك، وصعب عليك بابا، أوقات كتير بسأل نفسي يا ترى مين فينا اللي بيعرف يمثل.. أنا ولا هو؟! اصل في بعض الأحيان بيكون هو ممثل أفضل مني.
قطب بلال حاجبيه بعدم فهم، وأفصح:
_مش فاهم!
فتنهدت آخذة نفسٌ عميق، ورددت:
_عمرك شفت أب بيشغل بنته عشان يرتاح؟!
يشغلها في أي شغل عشان الفلوس!؟
عمرك شفت بنت هي اللي بتصرف على أبوها؟! تأكله وتشربه وتصرف عليه وهو واكل نايم شارب مرتاح، مش مهم اصلًا راحتها هي ولا سعادتها اهم حاجة الفلوس اللي هتيجي منها تغور هي بقا. ده باختصار بابا شخص كده عايز يفضل نايم مرتاح وكل حاجة تجيله لحد أيده، اكدب عليك لو قولتلك إني بعتبره أب، لإنه عمره ما حسسني بكده.
سخطٌ هائل تعاظم في صدر بلال على هذا الأب، و ود لو يلقاه فيعلمه كيف يكون أب..
وتمنى لو يمحو كل ذاك الحزن القابع في عينيها والساكن قلبها لكن ما باليد حيلة، لذلك فقط عرف إن أمان إسراء ليس أبيها، فتاة مثلها بحاجة إلى أمان
والأمان شيء محال أن نجده، في زمان بات فيه الطغيان يغشى قلوب الجميع.
وبات الرجال أشباهٌ لرجالٌ قد غادرو الحياة.
لم يعرف كيف يواسيها او ما ينطقه، فخرجت الكلمات من فمه بلغته الفصحى التي يهيمُ فيها، قائلًا:
_لا يكلف الله نفسًا إلى وسعها، الله عز وجل لم يختارك لهذا البلاء عبثًا إنما لحكمة يعلمها هو الواحد الأحد، الإبتلاء يا إسراء لا يكون فقط في المال والصحة والغنى والفقر إنما.. في الأهل أيضًا وابتلاءك عظيم فتسلحي بأعظم الأشياء وهو الصبر ذاك الباب الذي يدخله الصابرون بدون حساب وإن مع كل دمعة تكفيرة، يقول الحبيب ﷺ "ما يصيب المسلم من هم، ولا حزن، ولا وصب، ولا نصب، ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" رواه مسلم.
كل دمعة أنتِ مأجورة عليها.
أيمكن لكلماتٍ أن تكون بلسمًا للندوب!
أيمكنها أن تمحو كل دمعة!
وتزيل كل نغصة!
وتطيب الفؤاد!
هكذا كان وقع كلماته على قلبها، كلماتٌ طيبت روحها، فإذا بها تسأله في راحة لم تخامر قلبها يومًا:
_وليه ربنا يبتلينا؟!
فتبسَّم في إشراق، وشرد للحظات قبل أن يقول في خفوت:
_لتكفير الخطايا، ومحو السيئات، وزيادة الحسنات، ورفع الدرجات  .. يبتلينا لنتوب ليغفر لنا ويقربنا إليه حتى نعلم إن لا ملجأ لنا إلا هو وإن الحياة الدنيا ما هي إلا لعبٌ ولهو.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل... فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه البخاري.
ربما أرد الله أن يمحص قلبك، ربما هو عتاب لكِ لكي تعودي إلى الصراط المستقيم وتهتدي وتهدى.
وزفر زفرة ثقيلة  مخرجًا فيه كل ما يعتمل صدره، ونظر لها متابعًا:
_وتارة يكول البلاء عقاب للمؤمن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا البر" رواه أحمد، فعليكِ بالدعاء والتضرع إلى الله والصبر والتحمل، ومن يدرِ قد يهتدي أبيكِ.
أرادت أن تضمه أن تختبيء في صدره وتخبره إن لذة كلامه آسرت قلبها، وإن حديثه شرح صدرها، ولأول مرة يتبسم فؤادها بصدق.

🌺 اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد 🌺

استيقظت إسراء على حركة سهير التي كانت تفتح ضلفتي النافذة وتستنشق هواء الفجر النقي البارد بنفسٍ راضية، فسألتها حائرة:
_إيه اللي صحاكِ الفجر لسه هيأذن!
فغمغمت سهير وهي تستدير إليها:
_صحيت لصلاة الفجر، وبحب اسمع صوت بلال في الأذان.
هتفت إسراء في لهفة وهي تقفز واقفة بجانبها وقد زال كل أثر للنوم من عينيها:
_هو .. هو بلال بيأذن؟
وجاءها الجواب عندما علا صوت أذان الفجر، بصوت بلال متوغلًا في مسام روحها، مستقرًا في شغاف قلبها، كانت لأول مرة تهتم بالأذان أن تسمعه في هدوء دون أدنى حركة..
وأدنى صوت..
ويا له من شعور..
وعندما أقبل الصباح، وعاد بلال من الجامع، هرعت إلى النافذة، تراقبه وهو يداعب أخيه الصغير عمرو دون كلل..
من يراقب شخصٌ كبلال..
لا يتطرقه كلل ولا ملل..
فمراقبته حياة لقلبها
وبرؤيته تتفتح اكمام روحها
ليتها تستطع مشاركته تلك الجلسة، فكم تحسد عمرو الصغير على إمكانه الجلوس معه وقتما يشاء ومتى يحلو له..
ليتها جزء من عائلته!
لم يمض دقائق قليلة وهي تقف في النافذة لا تحيد البصر عنه وهو في سيارته مفتوحة النوافذ، إذ أقبل صبي هاتفًا في جزع:
_الحق يا بلال، الحق يا بلال الست أميرة بتتخانق...
ورأت بلال ما أن اخترق الاسم سمعه يهرع من سيارته تاركًا بابها مفتوحًا إلى ثُلة من الرجال وأخرى من النساء وبدا إن عراكًا حاد نشب بينهم.
كل ذلك لم يثر اهتمامها إلا اسم أميرة الذي جعله يهرع بكل لهفة إليها، ومن مكانها رأت صراعًا ينشب بينه وبين أحد الشباب..
كان شاب بدينًا  ييدو على ملامحه الشر والبلطجة، فتوجست خفية في نفسها، وعاد بلال يختفي عن أنظارها، وتهدأ المعركة ويمر وقت قبل أن يمر بلال من وسط الجمع ممسكًا بحنان بكف فتاة.

يتبع …
رأيكم؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

#والتقينا
#ندى_ممدوح








والتقيناWhere stories live. Discover now