أعزوفة الغلام البائس

19 2 3
                                    

تحت سماء احدى ايام نونبر الباردة ، في احدى الشوارع الشعبية بالمدينة ، تسمع انغام. لتهويدة ،تهويدة تحبس الانفاس و تكسر الفوائد من حزن مرتلها ، تهويدة قد تبكي رجالا ، تهويدة مغنيها طفل بائس ، طفل لا يتعدى العشر سنين ، قست عليه الحياة . سلبت منه براءته ، سلبت منه روح الطفولة و جعلت منه جث ة خالية من كل ما هو بهي.. كان ذلك الغلام يتوجه لمسكنه بعدما كان يرتل بصوته الشجي ليكسب بضع سنتات ليسد جوعه و جوع امه المريضة ، تعمق الغلام بزقاق مظلم تصدر منه رائحة لا يتحملها بشر فتح باب مسكن مهترئ من الصفائح المعدنية مصدأة ينادي على أمه "أماه لقد جمعت لك نقود الدواء بعد مشقة، و اشتريت بعض الخبز ليسد جوعنا ، يا له من يوم مبارك يا أماه" استعجب الغلام من سكوت امه الغريب ، فهي بالعادة تضحك بحنية و تشكره و تتأسف له على تعبه, ذهب ليطمئن على حسنائه الحنونة. فإذ به يجدها ما زالت منغمسة بنومها ، عقد الغلام حاجبيه بقلق فلم يكن من عاداتها النوم الكثير ، رفع يده يربت بها على و جه امه موقذا لها بحنية و براءة" أماه الن تسيتيقظي لتباركي عمل ابنك الشغوف فقد جمعت لنا قوتا لليوم الست رجلا قادرا يا أماه" لم تجبه حسناءه لم تفتح عيناها الحنون كي تنظر له و تطمئن فؤاده ، لم تفتح له ذراعها كي يختبئ بنعيم حظنها  , رفع يده يتحسس تنفس أمه فلم يحي بشيء ، فإذ به يهوا راكعا يمسح على وجنتاها برجفة يداه باكيا فأردف بشهقاته الدامية " لا تموتي يا نبع حناني ، يا حسنائي لن تموتي ، بل ابقي معي و لا تتركيني وحيدا في بحر أحزاني ، لا تموتي حبا بالإله حادثني" و كم بكى و صرخ مستنجدا حسناءه ، و كم كلمها و توسلها لكن الموت تلبسها و لا رجعة لها من قبضته. فلما استوعب عقل الغلام موت أمه و تركها له وحيدا بشتاء حياته القارس برده ، راح راكضا يدق باب البيوت المقدسة راجيا تكريم و دفن جثة امه راجية رحمة ما يلقبون بأطيب الإنس و أرحمهم ، لكنهم صدوا هذا الطفل البريء ملقبين له بأبشع الألفاظ ، و يا لقسوة قلوب البشر و ما أشرها ، راح يمشي بائست بدروب مدينته مرتلا معزوفة حياته البائسة ، ،فإذ به يقف أمام بوابة لبيت مقدس لآخر بشعاع أمل بعيناه متوسلا تعاطف أل البيت ، فتح البوابة والجا شاعرا برهفة و دفئ لم يسبق له الشعور به في شتاء حياته ، راح مستقبلا له رجل بالثلاثينات او الأربعينات لحيته المسودة تصل لنصف صدره رادفا "مذا تريد يا ولدي مالك باكي و حروف الحزن مرسومة في محياك انك لأقلقت دواخلي" نظر له الغلام بترجي و توسل "اني وجدت امي ميتة بمسكننا المتهالك و انا وحيد و اني لست عالم بما افعله فأنا فقير لا مال لدي و لا عائلة ، فإني أرجو عطفك بي و لتكرم جثة نبع حناني ، فلا علم لي بما أفعله ، أتوسلك يا الملقب بالرحمة و الرأف أنجدني فأنت بصيص أملي المتبقي" قال راكعا متوسل الرجل متذللا . رقت أعين الرجل باكيا فما أقسى الحياة كي تقتل و تذل روح طفل لم يشتد عوده بعد و لم يرى جمال الحياة.
و حسنها" يا فتى قف لا تركع لأحظ غير الإله الخالق فرامة المرأ هي كنزه , و لا تهدر دمعك و لا تحزن فؤادك فالصبر مفتاح الفرج ، و لا تقلق فأنا سأساعد. بدفن أمك و سنيقم جنازة لإرامها حتى و ان كانت بسيطة."، ابتسم الغلام وسط دموعه شاكرا الرجل على كرمه و رحمته ، راح الرجل يصرخ مناديا لرجالا بمختلف الأعمار منهم الشاب و متوسط العمر و الذي هلكته الشيخوخة منبتة الشيب في سواد خصلاته و أخذ يتصل طلبا عدة أشياء، و لما انتها نظر في اعين الغلام قائلا" دلنا على مسكنك يا غلام " ابتسم الغلام ابتسامة منكسرة خارجا دالا الجماعة الى مسكنه سالكا أقرف و أوسخ الدروب و الأوقة ليصل لمسكنه فخطى داخلا و دواخله ترجف حزن لما رأى جثة حسنائه فاقدة الروح فأدمعة عيناه دون شعور ، " ها هي جثة حسنائي يا شيخ فئرأف بها فجسدها رقيق حساس فلا تقسو عليه، و اعتني بشعرها المنساب فلطالما عشقته فهو يذكرها بأبي الذي تخلى عنها وسط ظلمات الحياة و لم أفعم يوما عشقها له رغم بشاعة ما افتعله بها و بي" قال مترجيا الرجل ."لا تخف يا غلام فإننا لرؤوفون بجثث العباد"فإذ بامرأة ملثمة تلج " انها زوجتي ستغسل جثمان والدتك و تعطره و تكفنه بالبياض لدفنه" أومأ الغلام و دموعه تشق طريقها بوجنتيه. مرت الجنازة كالجحيم على الغلام فهو لا تزال دواخله ناكرة لرحيل حسنائه . كان يجلس على تراب قبر أمه ساهيا يناظر اسمها المنحوت على الحجر ، فإذ به يحس بجسد أخذ بجواره مجلس ، فلم يكن إلا الشيخ إلتفت الغلام متجاهلا إياه مكملا تأمله للحجر،"ستشرق روحك بعد ليال مظلمات... الذبول الذي زار وجهك سيأخذ أيامه العجاف و يرحل فقط ربت على قلبك و اهمي له انك تقدر ، تقدر على تخطي كل ذلك الحطام ، تستطيع نفض الغبار عن قلبك و تعود لتشرق من جديد"قال الشيخ بحنية ناظرا للغلام ، بادله الفتى التظرات فأردف بروح مجروحة منكسرة"كيف للصمت ان يكون صاخبا ؟ كيف لذلك الوجوم أن يحمل بين ثناياه جل ذلك الجلب" نظر له الشيخ بصمت يحمل في طياه الأسف و الشفقة على حال الغلام.
أنقضت ليال و شهور و أعوام عدد و إذ يشتد عود الغلام ،
ف
ينبلج الليل بعد قيام الشمس من مشرقها فتبدل عرشها مضجعة مطرق القمر الذي لاقى شرق النبوغ.. فيحل صباحا جديدا، و ذلك الصباح..من كان يظن انه بداية المخطوطة؟بداية حكاية مرموقة؟ 
قمت ذابلا ككل يوم بحياتي بائسا فاقدا لروحي . خرجت من ذلك السكن المتهالك كفؤادي ذاهب للا مكاني كي أجلب قوت يومي . وصلت لشارع الشعبي الرئيسي ، فجلست بمكاني المعتاد بادءا غنائي الحزين ، مرتلا أعزوفة حياتي البائسة ، غنيت و غنيت لياعات طوال و لم أجمع إلا عدة دراه ، و لما قمت أتجول باحثا عن عمل ، فإذ بي أمر بجوار مظلم ظيق فأسمع صوت نواح و صياح لإمرأة ، رحت راكظا لمصدر  الصخب فإذ بي أرى فتاة محاصرة بين شابين بمقتبل العمر يرغمونها على نفسا ، لم أشعرف بنفسي إلا و تجهت متظاربا معهم رغبة بإنقاذ البريئة الباكية ، لما احتد الشجار  أخذ شاب بيد صاحبه مخبرا إياه بالذهاب فلا رغبة له بالمشاكل، فذهبا تاركيني بوجه مدمي من الظرب ، لما استدرت لأطمئن على الفتاة ، فاذ بمجرتينا تلتقي فيقف الكون ممجدا ذلك الاستضام العظيم مخلدا اياه في كتاب الزمان و التاريخ و الملائكة تعزف الحان العشق محتفلة بقصة عشق تخلد في المجلدات المقدسة.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jul 04, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

أعزوفة الغلام البائس (مكتملة)Where stories live. Discover now