5 | مَاءٌ لَيّن وأيْدِي مُكَبّلَة .

ابدأ من البداية
                                    

وقد اِستوعبتُ قبل بضع لحظاتٍ، أنّ البيت يخصّ تلك العَمّة الّتي حَام حديثٌ سابقٌ بينِي وبينهَا عن موضوع الملايَة، كما أنّ قريبًا لها لا زالَ منذ القدمِ يمتلكُ مكانةً سواء بالنّسبة لهذه المنطقَة أو بالنّسبة للسّلطات الفرنسيّة .. لم أهتمّ كثيرًا بما تمّ تداوله عن هذا السّيد من قبل النّسوة المتجمهراتِ حولَ العمّة فاطمَة، يعدّدن في مزايَاه باِعتباره زوجهَا أيضًا وهي تكتفِي بالابتسام وبكلمةِ شكرٍ واحدَة .. همّي الوحيد والأوحد هنَا هو اِرتقاب هذه الفاجعَة وإلَى أين ستؤول بهَا الرّياح ..

وتقاطعَت شباكُ هذا السّكون المتذبذب الّذي مارستهُ لمرّاتٍ لا تُحصى، وأنا أحتضِن أحمد الصّغير المرتجف بين أوصالِي بعدمَا اِصطحبته معِي رفقة العمّة قبل دخولِي إلى هنَا .. تفرّقت خيوط هذَا الوجوم للحظاتٍ، بعد ولوجِ أو إن صحّ القول اِقتحام سيّدةٍ أخرى هذا الموئل الضّيق لاهثةً، مرعوبةً وعلامات الاِصفرار تتناطح على وجنتيهَا المتعرّقتين ..

« وأخيرًا أتيتِ يَا اِبنتي »

نطقَت العمّة بنبرةٍ مبتهجةٍ قليلًا، وهي تحاوِل زرع الأملِ فِي روحهَا بعد رؤيَة هذه المرأة .. لكنّ ملامح الأخرى لم تبشّر بالخير أبدًا .. مثلما أبصرتهَا، شاحبةً ذابلةً تحاكِي يأسًا متحجّرًا يستعصِي وصفُه ..

السّيدة تقدّمت، دنَت .. ثمّ اِنهارت أمام قدميْ العمّة، وهي تنتحب جاعلةً من البقيّة يقتربنَ منهَا قليلًا، ويحاول بعضهنّ اِلتماس سببٍ لعلّة نحيبها الموجِع هذَا، لكنّها لم تتكلّم، لم تنطق، لم تنبِس بحرفٍ واحدٍ حتّى اِضطرّت العمّة لإمساك كوعيهَا بكفّيها البيضاوتين المجّعدتين، وعلامَات القلق الممزوجة بالغضب والخوفِ اِمتصّت بضعًا من ملامحهَا :

« تكلّمي ! ماذَا حدثَ ؟! »

ندهَت بهَا العمّة بصوتٍ مرتفعٍ يحاكِي الاضطرابَ المتشاحنَ وسط بتلاتِ حلقهَا، ولَم يكن بمقدورِ تلك الشّابة سوى الانتحابَ أكثر، والنّبس بكلماتٍ لم تبدُ مفهومةً من الآونَة الأولى :

= عبد الرّ ... ع.. عبد الرّحمَن ..

≠ ما بهِ عبد الرّحمن ؟ اِنطقي يا اِمرأة !

= عبد الرّحمن .. لقد أخبرنِي عامر أنّه لربّما قد ضاع في الغابَة ولم يجِد له أثرًا منذ أن طفِق الحريق في الاشتعالِ والتّوسع !

≠ وكيف لم تنتبهِي لطفلٍ صغيرٍ مثله ؟! وخصوصًا في هذه الظّروف المعقّدة ؟!

= وما أدرانِي يا عمّتي ؟ لقد اِنشغلتُ بالصّراخ على عامر بعدما هرَع دون تفكيرٍ نحو الغابَة، وبمجرّد أن التفتُت لم أجد اِبنِي بجانبِي، صرختُ، ناديتُ .. حاولتُ البحث عنه في المناطق الأقرب لبيتنَا، لكنّي لم أجد شعرةً منه ..

الرّعَايَاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن