قال خالد هائماً:
- أو تمتلك زيكولا التي تنتقم منا .. مدخلا آخر .. لا يعلم عنه الكثيرون..
فَنطقَ إياد:
هذا مستحيل..
ثمَ نظر سيدي إلى السيدة الغريبة .. وحدثها بِلُغتها ولمّا إنتهى هزت له رأسها في حزن .. وهَمت لِتغادر .. فسألَه خالد:
ماذا قُلت لها؟
فأجابه:
أخبرّتَها إننا لن نستطيع مساعدتها .. لم نرى أحدا مِن أهلها مِن قبل .. وسنرحل قريباً..
فقال إياد:
أخبرها إن الحاكم سيلقي خِطاباً إلى أهل المنطقة الشرّقية صباحاً .. سيجتمع الكثيرون هناك .. ربما يكون جمعاً ذا فائدةٍ لها.
فأخبرها سيدي بذلك .. فربتت على يده .. ثمَ انحنت بجذعها لِسادتي جميعهم .. كأنها تشكُرهم .. ثمَ غادرتُنا .. ومال إياد على جانبه وأغمض عينيه ونام موضعه .. بينما غادرت منى إلى غرفتها .. وظَلَلّت أنا بجوار سيدتي .. ومكث سيدي وخالد بالغرفة .. وكان يغلبني النعاس بين حين وآخر .. ثمَ سمعت خالد يسأل سيدي:
متى سيصل جَيْشُك إلى الشاطئ؟
فَأجابه:
خلالَ تلكَ الأيام..
فسأله مُتعجبا:
ألا تعلم لوصوله وقتاً محدداً؟
فقال:
لا أستطيع أن أُحدد موعداً دقيقاً .. ممر هضاب الريكاتا وسط بحر مينجا لا يمرر إلا سفينةً واحدة .. ولا اعلم كم تم تجهيز من السفن.
وأضاف قائلاً:
لم أمتلك الوقت .. لقد أخبرَني الأطباء .. إنَ حياةَ أسيل في خطر إن طالت إغماءتها .. فَكَلَّفت كبير قادتي بِتجهيز جيشنا .. أثِق به تمام الثِقة.
وتابع:
وزادت ثِقتي حين رأيت جيش زيكولا .. لم يكن ضخماً كما تخيلناه دوماً، وسكت فسأله خالد:
هل أخبرتك أسيل أنها تحبك؟
فصمت سيدي .. ثمَ قال:
لا.
فسكت خالد .. وساد مع سِكوته سكون الليل، وأَغمضاَ أعينهما .. فأسندت رأسي إلى ذراعي الممتد بجانب الطبيبة .. وإستغرقت في النوم لتمُر ساعات تلك الليلة الطويلة .. قبل أن تشرق الشمس .. وأطلق صرخة مدوية .. نهض معها جميع مَن بالغرفة حين شعرت بِأصابع ناعمة تُداعب شعري، وَلما رفعت رأسي ونظرت إلى الطبيبة بِعين نصف مفرجة، وجدتها تنظر إليَّ.
وقفّنا جميعا مُشرقةٌ وجوهنا بجانب سرير الطبيبة .. سيدي عن يمينه إياد .. عن يمينهِ خالد، وعُدّت أنا إلى الخلف .. منفرجة أساريري .. كانت أعينَهم تُحدق بعينيها فرحةً، بينما كانت هي تنظر هائمة في اتجاه واحد دون غيره .. نحو خالد، ثمَ إنّهَمَر سَيّل مِن دموعها على جانب وجهها .. وهمست فَرِحة بإعياء:
- خالد ..
فَابتسم وهز رأسه فَرحاً .. وربت على يدها .. فَابتسمت وضاقت عيناها، ثمَ نظرت إلى إياد وإلى سيدي .. الذي كان يرتدي ثياباً زيكولية وبدت على وجهها حيرة .. زادت بعدما نظرت إلى ذراعها المثبت به أنبوب معدني رفيع، ثمَ حَدقت بِسقف الغرفة ودارت عينيها إلى الغرفة مِن حولِها .. وقالت:
أين أنا؟
فقال سيدي فرحاً:
إننا في زيكولا..
فَنظرت إلى الفراغ أمامها كأنها تستوعب ما يكون قد حدث، ثمَ عادت وسألتنا:
ماذا حدث؟
فابتسمنا جميعاً .. وقال خالد بلهجتِهِ الغريبة ضاحكاً:
فيه حرب هتقوم بسببك..
ثمَ وجدناها تحاول أن تنهض بجسدها فأسرعت وساعدتُها .. وثَبت وِسادة وراء ظهرها .. فسألتني:
ماذا حدث يا قمر؟
فهمست إليها باسمة:
سأرويِ لَكِ كل ما حدث يا سيدتي..
فحركت عينيها مجدداً إلى خالد واطالت نظرتها كأنها تتأمله فغادر سيدي الغرفة، ثمَ أحضرت لها شراباً ساخناً وساعدتُها كي تحتسيه بأكمله .. وكانت نظرات الحيرة لم تُفارق وجهها .. فقلت:
لقد أحضركي إلى هنا سيدي الملِك، منذ فقد عقلَكِ وعيَهُ بغرفتك الشَرّقية..
فصمتت كأنها تَتذكر .. فبدأتُ أروي لها ما حدث منذ شهر مضى، وكيف وجدناها تصرُخ شاحبة تلك الليلة .. وعن خِطاب سيدي إلى شعبه معلناً حربه ضد زيكولا لِيسقط خيانَتها، كان خالد يجلس بجوارها ممسكً يدها .. ويَندهش أحيانا مِن حديثي هو الآخر .. وأكملت لها عن عبورنا بحر مينجا على سفينة مَلَكية .. وعن ذلك النجم الذي لمع وحيداً ليلة وصولنا إلى الشاطئ الشمالي .. وعن عبورنا باب زيكولا .. وعبورها داخل صندوق للذهب .. والذي فشل سيدي في نقل ثمنه مِن الذكاء إليها بعدما قبل يدها، فأحمرت خَجلاً .. ونظرت بِطرف عينيها إلى خالد.
ثمَ حدثتها عن لقائي بِإيّاد صدفة .. ولم أزِد بهذا الأمر كنت لا أريد أن أتذكر ما فعلته تلك الليلة .. ثمَ أكمل إياد الحديث .. وأخبرها عن اتهامها بتهمتين للخيانة وعن ذلك القانون الذي أصدرته زيكولا فاقتَص كل وحدات ذكائها، فوجد سيدي إنَ سبيلها إلى النجاة هو عودةُ خالد ثمَ توقف عن الحديث حين دلفت منى إلى الغرفة .. وسكتنا جميعاً .. فَنظرت إليها سيدتي وسألتني عنها .. فسكتُ فتعجبت مِن سكوتي .. وأضطرب وجه خالد .. وسَحب يده بعيداً عن يد سيدتي .. فَنظرت إليه وسألَته بإعياء في ترقب:
- هي؟
فقال خالد:
نعم .. منى زوجتي
فأخفَضت سيدتي عينيها .. ونظرت شاردة إلى الغطاء الذي يغطي جَسدها .. واحمر وجهها احمرار شديداً .. وسكتت كأنها جُمِّدَت .. ثمَ الّتمعت عينيها بالدموع فغادرت منى ونهض خالد هادئاً .. وغادر الغرفة تبعه إياد الذي أغلق الباب خلفه وكانت سيدتي لا زالت تخفض عينيها قبل أن ترتجف شفتاها وتنفجر في بكاء عنيف فأقتربت مِنها وضممت رأسها إلى صدري وظلت تبكي إلى إن هدأت شيئاً فشيئاً ثمَ مسحت دموعها وسألتني عن سيدي الملك .. فهبطت الدرج إلى الرُدهة السفلية .. فوجدت إياد وخالد يجلسان صامتين فسألتهما عن سيدي .. فأخبراني إنه قد خرج رَكضا خلف نادين التي جُنَت حين أخبرها بِمَقتل يامن.
***
كان الأماريتي قد هبط الدرج إلى الرُدهَةُ السفلية .. وجلس شارداً مُخفض الأعين، ثمَ دَلَفت إليه نادين فجأة فَرحب بها .. وحين سألَته عن ذلك الشرود على وجهه أخبرها إنهُ بخير .. ثمَ سألَتهُ عن الباقيين فأضاف:
إنهم بغرفة أسيل .. لقد إستعادت وعيها.
فَفرحت .. وكادت تصعد الدرج إليهم فسألَته:
هل أوقفت الحرب إذن؟
قال:
لا.
سألَته متعجبة:
لماذا؟
قال:
سَأُوقِفها عليكِ ألا تقلقي..
قالت باسمة:
أريد أن يعود يامن..
فصمت قليلاً ثم قال:
لا أعدكِ بذلك
فتركت سياج الدرج وسألَته:
ماذا؟
قال الأماريتي متجهماً:
لقد قُتل يامن بالأمس..
فَدق قلبها بقوة ونظرت إليه قاطبة ما بين حاجِبيها، وعادت وأقتربت مِنه .. ثم صرخت به غير مصدقه:
ماذا تقول؟
قال:
هناك أشياء كثيرة لم نعُد نفهمها في زيكولا..
فصرخت إليه مجدداً:
لا تهمني زيكولا .. هل مات حقاً؟
فأومأ إليها برأسه حزيناً .. فأمسكت برأسها ذاهلة .. وركعت على ركبتيها وصرخت باكية .. وظلت تبكي وتضرب بيدها على الأرض بقوة .. ثمَ نظرت إليه فجأة كالمجنونة يتطاير الشرر مِن عينيها:
مَن قتلَه؟
قال:
ثمةَ قائد زيكولي وجنوده .. لا أعرفهم..
فنهضت وقالت:
سأقتلهم جميعاً..
ثم رَكَضَت نحو باب البيت .. وغادرته مُهروِلة .. فنهض ورَكَض خلفها.....