«أنا دمشق ياسمينة العالم التي تطل برائحة الأصالة والسحر، أنا عاصمة التاريخ على مر الأزمان، أنا العاصمة الأقدم في العالم، أنا الفيحاء، أنا التي تتفاخر بها كتب التاريخ والحضارات.فكيف لا وأنا موطن الأنبياء والعلماء، والواحة الغنّاء للشعر والشعراء، أنا التي تتقن كل اللغات ولا أحد يفهمني إلا الله جل شأنه وملائكة عرشه»
صمتت تستجمع رباطة جأشها، واستأنفت حديثها لجاراتها بنبرةٍ مهتزةٍ، ترثي حالها الذي آلت إليه.
«انظرن ماذا حلّ بأرضي! وكيف أصبح حال ياسميني!
لقد أضحى أحمرَ اللّون مغسولًا بدماء أبنائي التي تسفك عند أشجاره، ارتوت منه أغصانه بدل أن ترتوي من ماء نهرها بردى، بينما أرى في السنين الأخيرة أنها أصبحت تزهر الشوك بدل الياسمين التي كانت رائحته الفواحة تعبق في شوارعي وأزقتي»هطلت دمعةٌ يتيمةٌ من عينها فوق قاسيون حارسها الأمين، الشامخ بهيبته على أطلالها، وتلاها سيل من دموع الألم، تمر بين حاراتها القديمة علّها تغسل أحجارها وأزقتها من رائحة الدماء التي باتت لا تنفك عن جنباتها.
«لا يا أختاه، لا تبكي... لا تبكي يا درة الشرق، ابقي قوية كما عهدناكِ، أنتِ التي بقيتْ رافعةً رأسها بشموخٍ وكبرياء طوال ألفياتٍ من الأعوام» هتفت بها شقيقتها درعا؛ بكلماتٍ مشجعة ولا تدري هل بذلك تواسي أختها أم تُطمئِنُ نفسها وتطبطبُ على جرحها النازف!
استأنفت حديثها بصوتٍ صارم: «أنتِ التي كنتِ عامرة قبل أن تولد بغداد وباريس، وقبل أن تنشأ الأهرام وينحت من الصخر وجه أبو الهول، أنتِ التي عشقكِ الحالمون والبسطاء، وتغنى بكِ الشعراء على مر العصور، أنتِ التي احتضن ترابك جسد صلاح الدين الأيوبي بعد أن حرر القدس، لقد طاب له الموت على أراضيكِ، أنتِ التي لا تهتز ولا تُكسر، لطالما كنتِ ثابتةً قوية على هيئة لغزٍ أدهش الجميع، ومهما مرّ عليكِ من أوقات عصيبة بقيت المدينة الخالدة في وجه التاريخ التي لا تهزم ولا تُضام»
أيدتها حمصُ بكل حرفٍ هتفت به وأكملت الحديث قائلة:
«يا أقدم عاصمةٍ في التاريخ، تشجعي يا أُختاه!
لطالما تمكنتِ يا فيحاءُ من أن تبقي المنارة المضيئة في العالم العربي؛ لتكوني بذلك مدينة العلم والنور والثقافة والسياسة، ويعزى الفضل بذلك إلى عدم إغلاق أبوابك على مر التاريخ يوماً ما.ويشهد التاريخ العريق أنك الأرض الطيبة التي عُرفت منذ القِدم بأنها تجارية بحكم موقعها على عددٍ من الطرق التجارية، كطريق الحرير والبحر وموكب الحج الشامي التي تعبر أراضيكِ، وإنه لشرفٌ كبيرٌ لكِ بذلك، وإن الذي يَدخُلك ويمشي بين أسواقك، يترك بداخله شعورًا بأنه يتنّقل بين صفحات كتاب تاريخٍ؛ صفحة من الحاضر وأُخرى من الماضي العريق، لقد تغنى بكِ الشعراء، نظموا القصائد بسحرك وفتنتك!»
أنهت حمص حديثها وهي تحاول الابتسام في وجه أختها، وبث القليل من الأمل والتفاؤل في روحها المتعبة.
نظرت لهن إدلب بضعف وقالت بصوتٍ بالكاد يسمع من شدّة الألم الذي ما زالت تعانيه وجراحها تنزف مُشكلّةً نهرًا من الدماء: «لا تقلقي يا أُختاه، سنرمم أجزاءنا المتفتتة، سنقاتل بكل شجاعةٍ وإباء»
بالكاد استطاعت التفوه بهذه الكلمات المشجعة وهي تلهث وتتأوه بألم وتكبت دموعها داخل مآقيها، لا تريد لأحد أن يرى ضعفها ستبقى قويةً متماسكةً دومًا.تنهدت درةُ الشرق وابتسمت بوهنٍ لأخواتها لأنهنّ شجعنها قليلًا رغم أنها تعرف عمق جراحهنّ وكم نزفن من الدماء.
لكنّ الحزن والقهر ما زال يسيطر عليها بقوّة، فأردفت ببأس: «كيف لا أحزن ودمشق التي كانت تختال بحضاراتها الراقيّة وتاريخها المجيد الممتد لعصور طويلة؛ لم تنل من حُكامها سوى القهر الذي جعل منها رمزاً لوطنٍ كتم حسرته وتحجرت في مآقيه الدموع؟
كيف لا أحزن! وهناك من يفرض علي الخنوع بين آلام أبنائي العاقيّن وضغوط طغاة معتدين، فالمتعاونون قهرًا وآخرون عمدًا وثالثٌ يراني ميراثًا لا أحلّ لغيره!»
أنهت حديثها بزفرةٍ قوية، وصمتت تفكرُ بما شهدته في حياتها التاريخية، لتلتمع عينيها بتصميمٍ وعزم، رغم الحزن الذي تحاول جاهدةً كتمه ودفنه في جوفها.
مسحت دمعةً متمردةً كادت أن تفرّ من عينها، وعادت ترفعُ رأسها بشموخٍ وكبرياءٍ لعاصمةٍ محتفظةٍ بوقارها الأزلي وأردفت بصوتٍ جهوَريٍّ صارم:
«وما زلت أصمد أمام الواقع الواهن، أدفع العجز عن جنباتي، وأُزيل التجاعيد بحثًا عن ذاتي الحضاريّة، وسأبقى عزيزةً قويةً لا تُكسر؛ طالما يزهر الياسمين على أرضي»
نعم ياسادة إنها دمشق الأرض العامرة، ابنة سوريا، أحد أهم البلاد العريقة المتأصلة في جذور التاريخ، المتشبّعة بأصول الحضارة، ومهما أصابها من نكباتٍ أو نَزِلَ بها من نوازل فستبقى هي الشام؛ وردةً عطرةً في البستان العربي.
================================
🌸دمتم في رعاية الله🌸

أنت تقرأ
(وطنٌ طي النسيان)
Non-Fictionيا شام، إن جراحي لا ضفاف لها فمسحي عن جبيني الحزن والتعبا وأرجعيني إلى أسـوار مدرسـتي وأرجعي الحبر والطبشور والكتبا (لم أعد أشتم رائحة الياسمين بعدما تكاثرت الجثث في حاراتها وشوارعها، لقد عشعشت رائحة الدماء في كل زاوية وت...