الفصل الثالث عشر

12.7K 320 4
                                    

قالت نورا بهدوء :- لم يرغب أبي بولادتي .. لقد تأمل فعلا أن تنجب له والدتي إبنا آخر بعد أن اتضح له عقوق أسلان وتمرده منذ حداثته .. المصيبة ليست فقط بإنجاب أمي لطفلة ضئيلة الحجم .. بل بعجزها بسبب ولادتها المتعسرة عن إنجاب المزيد من الأولاد له
قال علي بهدوء وهو ينظر إليها .. جالسة على العشب إلى جانبه في إحدى الحدائق العمة التي ترتادها العائلات عادة :- خيبة أمله لا تعني بأنه لا يحبك يا نورا .. بعض الأباء يجدون صعوبة في إظهار مشاعرهم اتجاه أولادهم لا أكثر
ضحكت باستهزاء وهي تقول :- هل تتعمد استفزازي أم أنك حقا بهذه البراءة ..مع أبي .. ما تراه .. هو فقط ما تحصل عليه .. لقد اعتدت على هذا منذ الصغر .. كنت أراه يدلل كورشان الجميلة .. كورشان المثالية ... كورشان الشبيهة بأمه .. المطيعة والحريصة على إرضائه .. كما كنت أسمعه دائما يمتعض من تمرد أسلان .. العاق والشاذ والفوضوي .. كنت أحب أسلان كثيرا .. لقد كان الوحيد في البيت الحريص على قضاء الوقت معي .. لم يعتبرني كالآخرين شيئا زائدا عن الحاجة .. لم يعهد لمربية غبية أن تهتم لأمري وتتظاهر بمحبتي مقابل راتب شهري .. كان فعلا يحب اللعب معي كلما عاد من الجامعة عندما كنت طفلة .. وكان يحرص على الاستماع إلي في بداية مراهقتي .. ولا يمل من إخباري بأنني مهمة .. بأنني مميزة .. وبأن حماقة أبي وجفائه أبدا لا يعنيان العكس ..
لاحظت الامتعاض على وجهه .. فقالت بدفاعية :- أعرف بأنك تفكر بشقيقتك .. مهما كان ما حدث فأسلان لم يتعمد أذيتها .. هو لن يخدع فتاة بريئة أنا أعرف هذا ..
قال هو بتوتر :- أرزو أيضا لم تتعمد التعلق به .. ما كانت لتفعل لولا أن منحها الفرصة لذلك .. أنت لا تعرفين الحالة السيئة التي أصابتها على إثر ما حدث قبل خمس سنوات ..
قالت بخشونة :- وماذا عن أسلان ؟؟ هل لديك فكرة تأثير ما حدث على حياته ؟؟؟ لقد علق في زواج لا يريده .. وخضع رغما عنه لسيطرة أبي مجبرا على العمل معه وكما يريد .. لقد كان أبي في انتظار غلطة من أسلان .. غلطة واحدة فقط ليخضعه أخيرا .. والنتيجة .. أسلان الذي أحببته وحرص دائما على أن يكون موجودا لأجلي .. تغير .. وابتعد عني كما ابتعد عن غيري .. وعدت وحيدة مجددا
صمت علي للحظات قبل أن يسألها بهدوء :- وماذا عن والدتك ؟
تنهدت نورا وكأن الحديث عن والدتها عبء بحد ذاته ..قالت بتعاسة:- أمي .. أمي تعيش في عالمها الخاص .. هي إنسانة رقيقة جدا وناعمة .. سيدة مجتمع حقيقية .. إلا انها في الواقع ضعيفة جدا .. وزواجها من أبي .. وطغيان شخصيته الجبارة عليها .. لم يساعد على الإطلاق هذا الجانب منها .. ظلت طوال حياتها تتبع الطريق الأسهل .. وهو أن تكون الواجهة الاجتماعية المتألقة التي يحتاجها من جهة .. والزوجة الدبلوماسية والتي نادرا ما تعارضه من جهة أخرى .. بعد كل مشكلة كانت تحدث بيني وبين أبي .. كانت تأتي إلي دامعة العينين .. ترجوني أن أفعل ما يريد .. لأن غضبه في النهاية سيعود عليها .. لقد تعلمنا أنا وأسلان أن نصم آذاننا عن صراخه .. أن نلف حول سلطته ونتجاهلها ..إلا أن أمي لم تملك أبدا تلك الملكة .. وثورات أبي الغاضبة .. تؤذيها .. ولا تناسب صحتها
مد يده فوق العشب ولامس أصابعها قائلا برقة :- أنا آسف
هزت رأسها وهي تتأمل عائلة قريبة .. أم وأب يجلسان على بساط مخصص للنزهات .. وطفلاهما الصغيران أخذا يلهوان حولهما بالكرة .. بدا مظهر العائلة جميلا إلى حد مؤلم .. ابتسمت بحزن قائلة :- لماذا أحكي لك كل هذا ؟ .. لم يسبق لي أن صارحت أحد أصدقائي بما يزعجني .. فلماذا أصارح شابا لم يعرف يوما معنى التفكك العائلي
قال آسفا :- لا أستطيع إنكار روعة عائلتي يا نورا .. لا أستطيع الاعتذار عن حبي لوالدي .. إلاأنني أستطيع أن أؤكد لك بأنهما ليسا كاملين .. لديهما أخطائهما أيضا .. وأبي .. إلهي .. لديه تلك الطريقة في معاملتنا وكأننا مانزال أطفال في العاشرة ..
قالت مداعبة :- ألهذا كنت تختبيء منه وأنت تدخن في الحفلة ؟ هل كنت خائفا من العقاب ؟
ضحك دون حرج قائلا :- شيء من هذا القبيل .. لا أدخن عادة ... إلاأنني أحب أن أقوم ببعض الأعمال الخاطئة أحيانا بذلك الداعي الصبياني .. إثبات رجولتي لنفسي .. لا أحاول مثلك أن أتحدى أحدا .. لا أرغب في حياتي أكثر من أن أتم دراستي .. وأنجز شيئا مهما في حياتي
نظرت إليه بفضول .. وكأنها تنظر إلى كائن غريب لم تر مثله من قبل .. سألها فجأة :- وماذاعنك نورا ؟ ما هي خططك للمستقبل .. غير أن تفقدي حياتك في حادث سير تحت تأثير الكحول أو أن يهاجمك احد رفاقك السكارى يوما فتعجزين عن صده
اصفر وجهها لجرأته في الكلام .. فقال بتحدي :- حسنا .. هذه النهاية الطبيعية لحياة كحياتك .. هل تنكرين ؟
تمتمت باضطراب .. دون أن تستعيد لونها الطبيعي :- عندما كنت صغيرة .. رغبت بشدة أن أكون معلمة .. فلا أحد اهتم بي كمعلمتي في المرحة الابتدائية .. كانت تحبني حقا .. وتهتم لأمري.. كانت تعرف جيدا وحدتي رغم انتمائي لعائلة ثرية ومعروفة ..وكانت تحرص دائما على إشعاري بأهميتي وقيمتي لديها .. تألمت جدا عندما اضطررت للانتقال إلى مدرسة أخرى عندما كبرت .. إلا أنني تمنيت حقا أن أصبح مثلها عندما أكبر ..
أحنى رأسه لينظر إلى عينيها قائلا بجدية :- لم يفت الأوان بعد نورا ... لست مضطرة لمتابعة ذلك الطريق المتهور الذي رسمته لنفسك .. ما عدت بحاجة إليه .. فأنا موجود في حياتك الآن
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إليه متوسلة .. وكأنها ترجوه أن يعني حقا ما يقول .. ألا يبتعد في النهاية كما ابتعد الكثيرون من قبله .. هز رأسه بابتسامة واثقة وقال :- أنا هنا .. ولن أذهب إلى أي مكان .. أعدك ..
كبتت ابتسامة ارتياح لم تسمح لها كرامتها بأن تظهرها .. إلا أنها لم تستطع إخفاء الفرح من عينيها .. فرح مشوب بالخوف

في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن