الفصل السابع

13.6K 331 3
                                    

:- آسفة .. هل أتصل في وقت غير مناسب ؟
انتبهت أسيل إلى أنها وللحظات طويلة ظلت تحدق في الهاتف ذاهلة دون أن تنطق بحرف .. تمالكت نفسها وقالت بثبات :- لا .. على الإطلاق .. لقد فاجئتني فحسب .. فأنا لم أتوقع اتصالك
قالت دنيا بنبرة اعتذار :- آسفة .. لقد أخذت رقم هاتفك ليلة الأمس من أرزو .. أنت لا تمانعين .. صحيح ؟
هرشت أسيل رأسها وهي تنظر حولها لتتأكد بأن أحدا لا يراقبها وهي تقول باضطراب :- لا .. بالتأكيد لا أمانع .. كيف حالك ؟
لماذا منحت أرزو دنيا دار أوغلو رقم هاتفها ؟ كيف تفكر هذه الفتاة ؟؟ هل نسيت بأن والدها مستعد لقطع رقاب إن عرف بأي اتصال آخر بين أفراد عائلته وتلك العائلة الغريبة ؟
:- أنا بخير .. أرغب برؤيتك .. هل أستطيع لقاءك هذا النهار ؟؟
صمتت أسيل وقد فاجأها السؤال .. أعقبت دنيا كلامها بقولها الحرج :- قد يكون كلامي غريبا .. إلا أنني قد أحببت التحدث ليك .. لقد حصلت هذا الصباح فقط على دعوة لشخصين إلى معرض نهاري لنحات محلي معروف .. وقد عرفت بأنك تهتمين بهذه الأمور .. كما أنني لا أجد من لديه الوقت لمرافقتي .. وأنا لا أحب أن أذهب وحيدة .. هلا رافقتني ؟؟
أغمضت أسيل عينيها بقوة .. لا تتورطي .. ابقي بعيدة .. إلا أن لسانها ذا الإرادة المستقلة قال ببشاشة :- سأحب أن أرافقك .. أين تحبين أن نلتقي ؟
أنهت المكالمة .. وظلت تنظر إلى الهاتف شاردة للحظات .. هي حمقاء ... صحيح ؟ .. كان عليها رفض الذهاب برفقة دنيا .. هي ليست بحاجة للمزيد من المشاكل .. إلا أن جزءا شقيا منها رغب بالتعرف أكثر إلى المرأة التي تحمل اسم أسلان .. أن تعرف أي نوع بالضبط من النساء هي ..
تنهدت وهي تتصل بكمال أخيرا .. فور أن سمعت صوته قالت باكتئاب :- كمال .... سأطلب منك معروفا ..

:- رغبتك في دخول كلية الطب ... لا تنفي حاجتك لقضاء وقتك في شيء مفيد خلال الإجازة
قال علي لوالده بتذمر :- وكيف يكون ترتيب مكتبك وأوراقك .. وتنسيق أرشيفك مفيدا
قال السيد فريد ببساطة :- عندما تتلقى مقابلا ماديا مجزيا بعد انهاءك للعمل .. أعدك بأنني سأكون سخيا معك
ذكر المال كان كافيا ليسكت علي ... فهو في حاجة إلى مزيد من السيولة لقضاء ما تبقى من الصيف في بحبوحة ... راقب السيد فريد علي باسما وهو منهمك في تصنيف أوراق والده وملفاته في إحدى زوايا مكتبه الكبيرة .. لطالما تمنى أن يدخل ابنه مجال التجارة والأعمال .. فهو يتمتع بكل المقومات اللازمة والكفيلة بتحقيق مركز مهم جدا له في عالم الأعمال مستقبلا .. علي ذكي .. صبور .. يتمتع بحكمة ونضج يفوقان سنوات عمره الثمانية عشر .. يتمتع بذلك الحس السليم اتجاه الخطأ والصواب .. من الخسارة فعلا أن يرغب بدراسة الطب .. إلا أن فريد لن يقف أبدا في طريق رغبات ولده الوحيد .. فخره .. وامله في الحياة .. سيكبر علي يوما ليصبح طبيبا قديرا .. وسيكون عونا له في الحفاظ على العائلة .. في الدفاع عن شقيقته أرزو وحمايتها من الأذى ... أحيانا يتساءل عما فعله كي يستحق ابنا بارا مثله .. ويدعو الله يوميا أن يحفظه له ولأمه .. هووأخته الكبرى .. قرة عينه ارزو
رفع علي رأسه .. ليلاحظ نظرة والده العاطفية التي استقرت عليه .. فجرب حظه مستغلا اللحظة وتمطى بتكاسل وهو يتصنع التثاؤب قائلا :- إن لم أشرب قليلا من القهوة سقطت فور أوراقك نائما .. هل استطيع إحضار القليل .؟؟ سأحضر لك كوبا معي .. ولن أخبر أمي بأنك قد خالفت تعليمات الطبيب واحتسيت شيئا منها
حرك حاجبيه الشقيين نحو والده الذي بوغت بالعرض .. وانطلت عليه حيلة ابنه الشاب فقال متفكرا :- لن يؤذيني فنجان من القهوة .. صحيح ؟؟؟ انهض يا ولد وأتي باثنين .. وإن تأخرت خصمت من أجرك
قفز علي متلهفا لتحريك ساقيه .. أخفى تعجله وهو يسير بانضباط نحو الباب .. وفور أن خرج .. تنهد بارتياح عازما على إحضار كوب من القهوة الخالية من الكافايين لوالده بحيث لا تضر بضغط دمه .. قبل أن يتحرك .. شاهد باب مكتب المدير يفتح بحدة .. وفتاة صغيرة تتجاوزه هاتفة ورائها بعنف موجه نحو شخص غير منظور له :- لم لا تدفنني حية ؟؟؟ سيسهل هذا عليك الكثير
اندفعت الفتاة كالصاروخ نحو الدرج متجاهلة صراخ الرجل القادم من الداخل :- تعالي إلى هنا ايتها الفتاة العاقة .. أنا لم أنهي كلامي
بدون تفكير .. نسي علي كل شيء حول القهوة .. واندفع لاحقا بالفتاة وقلبه يخفق بعنف بدا وكأن صداه يدوي في أذنيه .. إنها هي .. الفتاة الصغيرة التي قبلته في حديقة منزل دار أوغلو .. لم يتخيل أبدا أنه سيقابلها ثانية بهذه السرعة .. وقطعا لن يترك هذه الفرصة لتفوته
بحث عنها في أنحاء البهو الكبير بلهفة فلم يجدها .. قبل أن يغرق في خيبة الأمل . سمع موظفتين تسيران إلى جانبه تقولان بتهكم :- هل تصدقين بأنها الابنة الصغرى لعائلة دار أوغلو ؟؟؟ إنظري إلى ملابسها .. حتى إلى زينة وجهها .. تبدو خارجة من فلم هابط يتحدث عن جماعة الهيبيز
:- ثراء الانسان يسمح له بأن يكون ما يشاء .. ما أعرفه أنها ليست فوضوية الملابس فحسب .. هل سمعت عن آخر فضائحها ؟؟؟
بتأفف قالت الأولى وهي تبتعد مع صديقتها عن مرمى سمعها :- مهما كان ما فعلته فمن المؤكد أن السيد رأفت لم يعجب به .. لقد خرجت من المبنى وكأن أشباحا تطاردها بعد دقائق من انضمامها إلى والدها فـ...
لم يبق علي ليستمع إلى ثرثرة الفتاتين .. أسرع يخرج من المبنى .. ويبحث حوله عن أي شيء يشبه الكيان الضئيل بالملابس الجلدية الذي مر قبل دقائق من أمامه ..
رآها أخيرا .. على بعد مئة متر من المبنى .. تجلس على أحد المقاعد الخشبية فوق الرصيف .. تبكي ..
سمح لنفسه بتأملها من بعيد أولا .. كانت تبدو مختلفة عن الفتاة التي رآها في الحفلة .. كانت ترتدي هناك فستانا قصيرا وردي اللون .. وزينة وجهها كانت بالكاد ظاهرة .. أما الآن .. فملابسها الجلدية الضيقة التي أظهرت نحول جسدها .. وتفاصيله الوليدة الأنوثة .. وشعرها الأسود القصير المصفف بشكل غريب جعلها تبدو كالقنفذ الشائك .. وزينة وجهها الصارخة .. لم تقلل أبدا من جمالها في عينيه .. بطريقة ما .. وجد نفسه يتلهف للاقتراب منها .. لاحتضانها ومسح الكحل الذي لطخ عينيها .. وسؤالها عما يضطرها لتعذيب نفسها بهذه الطريقة .. لم يعرف لم خطر له هذا الخاطر .. إلا أنها بدت له أشبه بطفل يائس يستصرخ طالبا النجدة .. ولأول مرة ..وجد في نفسه لهفة للقيام بدور الفارس المغوار .. والتخفيف عنها
اقترب ببطء .. وجلس إلى جانبها على الطرف الثاني من المقعد .. مسحت دموعها بسرعة بظهر يدها دون أن تنظر إليه .. ثم نهضت هاربة كما يبدو إلى مكان أكثر خصوصية .. فباغتها بقوله :-
:- الحياة صعبة .. صحيح ؟؟؟ ربما كان من الأفضل أن نتمسك بطفولتنا فلا نستعجل النضوج .. على الأقل ما كنا حينها لنخفي دموعنا عن الآخرين كما تفعلين الآن
نظرت إليه ذاهلة .. فالتقت عيناها الزرقاوان الشفافتان بعينيه .. واخترقتا فؤاده بالبراءة التي ارتسمت فيهما وهي تقول مصدومة :- انت ؟؟؟ ما الذي .. ما الذي تفعله هنا ؟
قال بهدوء :- قبل أن تتهميني بمطاردتك .. رأيتك تغادرين مكتب والدك صارخة فلحقت بك .. لم أتوقع أن أراك مجددا بهذه السرعة .. كما لم أفكر إطلاقا بأنك الابنة الصغرى لرأفت دار أوغلو
هتفت فجأة بامتعاض وكراهية وكأنها تبصق :- هل تعمل لديه ؟
قال بحيرة :- لا .. لا أعمل لديه ولا أنوي يوما أن أفعل .. لقد كنت في زيارة لوالدي .. هو موظف في الشركة منذ سنوات
بدت دفاعيتها وكأنها قد خفت قليلا وهي تقول بتوتر :- ولماذا ترفض العمل لديه .. المئات من الشباب يتمنون فرصة كهذه ؟
هز كتفيه قائلا ببساطة :- أنا لست منهم .. خططي في الحياة لا تشمل العمل موظفا لدى أحد .. خاصة إن كان بتسلط والدك
ابتسمت مرغمة .. وجلست إلى جانبه قائلة بتهكم :- أراهن على أنك عاجز عن ترديد هذه الكلمات مجددا في حضرته
:- ولم لا ... لقد رأيتك تصرخين في وجهه وتتجاهلين أوامره لك .. لماذا علي أنا ان أخاف منه ؟
قالت مقطبة :- ربما لأن والدك موظف لديه .. وتخشى أن يخسر وظيفته بسببك
ابتسم متفكها وهو يقول :- لقد سبق لوالدي أن حطم فك ابنه على مرأى منه دون أن يفكر حتى بطرده ..
تغيرت ملامحها فجأة .. وظهر عليها البغض الشديد وهي تسأله :- أنت ابن فريد ألتنجي ؟؟؟
فتح فمه ليجيب إلا أنها أسرعت لتقف صائحة فيه :- أنا أكره والدك .. وأكرهك .. كما أكره شقيقتك الحمقاء
استدارت مبتعدة إلا أنه لحق بها بإصرار قائلا :- أتفهم كراهيتك لأبي .. ولأختي .. إلا أنني لا أفهم سبب كرهك لي ؟؟؟ لست أنا من سبب المشاكل لشقيقك المدلل العزيز ..
التفتت إليه شاهرة سبابتها في وجهه قائلة بحدة :- أنت لا تعرف شيئا عن أخي على الإطلاق .. فإياك أن تصدر نحوه أحكاما مسبقة
لم يعرف ما أصابعه .. مرأى إصبعها الصغير الأبيض موجه نحو وجهها مباشرة .. وعلى بعد بوصة من فمه .. حرك داخله غرائز افتراس لم يتخيل أبدا أنها موجودة.لديه ..
أطلقت شهقة عنيفة عندما انقضت أسنانه لتقبض على إصبعها وتشد عليها بلطف .. سحبتها مذعورة وتراجعت بضع خطوات إلى الوراء وهي تحدق به مرتجفة .. دون ان تفهم سبب الرجفة التي أصابتها عندما أحسن بأسنانه تداعب بشرتها ..
قال بخفوت وعينيه تحدقان بعينيها :- كما في الحفلة تماما .. لا تتعلمين من أخطاءك .. إياك أن تدخلي معركة لست أهلا لها يا عزيزتي ..أرحب بتقبيلك لي كما فعلت ليلتها .. إلا أنني لن أسكت عن تعاليك وشهرك إصبعك في وجهي .. وقذفك نحوي التهم والتحذيرات ..
لم تجرؤ على فتح فمها والنطق بكلمة وهو يرمقها بنظراته من رأسها حتى أخمص قدميها .. ثم هز رأسه قائلا بأسف :- من الخسارة أن تشوهي وجها بالجمال الذي رأيته تلك الليلة بهذا الشكل .. فقط بسبب رغبتك في إغضاب والدك .. لمجرد الفضول فقط .. هل سبق لرجل حقيقي .. لا ينتمي لفتيان مدرستك الأثرياء والسطحيين أن نعتك حقا بالجميلة وأنت ترتدين هذه الأسمال ؟؟؟
اشتعلت عيناها غضبا بينما استدار ملوحا بيده قائلا :- إن رغبت يوما في الكلام ( المؤدب طبعا ) .. والتحدث عن الشيء الذي يحفزك على ادعاء الجنون والسخافة بينما أنت تشعين ذكاءا وجمالا .. اتصلي بي .. فالوصول إلي ليس صعبا على الإطلاق ..
راقبته يبتعد .. ويلوح من بعيد لسيارة أجرة .. بينما كانت تستوعب كلماته الساخرة ببطء شديد .. ثم تبلور الغضب داخلها وهي ترى السيارة تبتعد به عن ناظريها فهتفت من بين أسنانها :- على جثتي أيها المغرور .. على جثتي


في محراب العشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن