الفصل الثاني : سفر في لجج المجهول

10.1K 953 215
                                    


صمتٌ أبديٌّ يلفُّ المكان كستارٍ من ضباب، لا صوت سوى همسِ البحر المتهادي على صفحة الصخور، وكأن الموج نفسه يخشى أن يُفسد السكون العميق.

كان أمامي، لا يفصل بيننا سوى أنفاسي المتقطعة، يُحدّق بي بثباتٍ مريب، نظراته زرقاءُ شفّافة، لكنها تحمل في طياتها سرًّا عميقًا، شيئًا لا أستطيع إدراكه ولا أجرؤ على تجاهله. بدا كأنه يراني للمرة الأولى، أو ربما كأنه يعرفني منذ الأزل، كأنه يبحث في وجهي عن شبحِ ذكرى قديمة، عن شيءٍ مدفونٍ بين طبقات البحر وأعوام النسيان.

حاولتُ أن ألتقط إشاراته، أيّ شيءٍ يبدد هذا الصمت المخيف، لكن الحاجز الذي بيننا كان غير مرئيٍّ، كثيفًا كأنني أمام مرآةٍ تعكسني دون أن تعكسه، تمنحني وجودي وتحرمه من أي ملامح واضحة. نفد صبري، وفاضت حيرتي، فتجرأتُ أخيرًا على قطع هذا الخيط المشدود بيننا، وقلت بصوتٍ مرتجفٍ كنسيمٍ يتكسر بين أوراق الخريف

"مـ... مرحبًا؟"

تناهت كلمتي إلى البحر قبل أن تصله، انسكبت كقطرة ماءٍ فوق سطحٍ راكد، بلا صدى، بلا إجابة. ارتبكتُ، حدّقتُ فيه بحثًا عن أيِّ ردة فعل، لكن ملامحه ظلّت متحجّرة، وعيناه لم ترمشا حتى. هل هو أصمّ؟ أم أنه لا يفهم لغتي؟ أم أن حضوره ذاته خُلق خارج حدود المنطق؟

ابتلعتُ جفاف ريقي، وحاولتُ من جديد، صدى صوتي جاء هشًّا هذه المرة، كأنه لا ينتمي لي

"أنتَ من أنقذني... أليس كذلك؟"

لا إجابة، لا حركة، فقط زرقاوتاه تتألقان كأمواجٍ تخفي أسرارها تحت قباب الضوء والظلمة. كان وجهه لوحةً بلا اسم، لا انفعال فيه، لا حُزن، لا دهشة، لا حتى سخرية. لكن في عمق نظراته، كان هناك شيءٌ غريب، شيءٌ يشبه الأسى، أو ربما الحنين...

عبثًا انتظرتُ ردّه، عبثًا تلمّستُ أي خيطٍ يربطني به، لكن الصمت بقي سيّد الموقف، وارتعشتُ أكثر تحت وطأة بردٍ بدأ يتخلل عظامي. تيّارات الهواء العاصفة نفضت شعري المبتلّ حولي كستائر الليل، قشعريرةٌ هائلةٌ سرَت في أوصالي، فأحكمتُ لفّ ذراعي حول جسدي المتجمد، ورفعتُ بصوتٍ مرتجف

"أ... ألن تخرج من الماء؟"

عندها، ببطءٍ مخيفٍ، تقوّست شفتاه المائلة للاحمرار بابتسامةٍ غامضة، ابتسامةٍ لم أفهمها ولم أستطع التخلّص من رعشتها في قلبي. أدار وجهه عني للحظة، ثم بنظرةٍ قصيرة، رمقني كمن يلقي نظرة وداعٍ على فريسته، وقبل أن أستوعب، انحنى بجسده وانسلّ إلى المياه بهدوءٍ أشبه بالسراب.

شهقتُ، فقد تبخّر أمامي كما لو لم يكن موجودًا من الأساس!

خطواتي تسارعت نحو مقدمة الصخرة، حدّقتُ في صفحة البحر، بحثتُ عن أثرٍ له، عن فقاعاتٍ تتصاعد من الأعماق، عن أيّ علامةٍ تدلّ على أنه لم يكن خيالًا، لكن لا شيء سوى المياه الممتدة حتى الأفق.

مرّت ثوانٍ، ثم دقائق، وأنا أركّز بصري على الأمواج المتراقصة، فكرت أنني كنتُ أهذي، أن ما رأيته لم يكن أكثر من خيالٍ ترسمه الهلوسة بعد الموت.

لكن قبل أن أستدير مستسلمةً، دوّى صوتُ ارتطامٍ عنيفٍ بالماء. التفتُّ بسرعة، وإذا به، هناك، ليس بعيدًا عني، يطفو على سطح البحر، يدور بجسده في الماء بسلاسةٍ مريبة، ثم، وبحركةٍ خاطفةٍ، قفز عاليًا في الهواء وانقلب كما يفعل الدلفين، وعندها، رأيتُه...

ذلك الشيء الذي لم يكن يجب أن يكون، ذلك السرّ الذي لم يكن من المفترض أن أكتشفه،

ذيلٌ قرمزيٌّ ممتدٌ مكان ساقيه، يلمع تحت وهج السماء المتوشحة بالأحمر القاني، قشوره المتلألئة تعكس ضوء الشمس الغاربة، تتلألأ كما لو أنها نُسجت من جوهر اللآلئ والدماء معًا.

سقط قلبي بين ضلوعي، وهربت كل الأفكار المنطقية من رأسي، كل قصص الأساطير التي عشقتها يومًا استيقظت في داخلي دفعةً واحدة، كأنني دخلتُ إلى عالمٍ لم أعد قادرةً على الخروج منه.

وبينما كانت عيوني تتسع من الذهول، كان هو يبتعد ببطءٍ نحو الأعماق، تاركًا خلفه تموّجاتٍ تذوب في المياه، ورمقني بنظرةٍ أخيرة، نظرةٌ كانت كطعنةٍ جليدية، كسكينٍ تذوبُ في جلدي قبل أن تصل إلى قلبي.

وتلاشى...

وقفتُ هناك، وحدي، والبردُ ينهشني حتى العظم، وصدى أفكاري يصرخ بداخلي...

"لا شكّ أن هذا تأثير السقطة."

غرق|| إرتعاشة الموج الأخير ⊳ p.jmحيث تعيش القصص. اكتشف الآن