الفصل الأول : بعثٌ من عتمة البحر

13.4K 1K 259
                                    

كهامدٍ تجرَّع جرعة صحوٍ بعد الموت، كنتُ أنا...

أهيم بين النور والعتمة، بين العدم والبعث، بين صمتٍ مطبقٍ ونبضٍ يتردد صداه في جوفي كأصداء بعيدةٍ من حياةٍ منسية. أتراني مت؟ أم أنني في برزخٍ بين الحلم واليقظة، بين ما كنتُ وما سأكون؟

جسدي خفيفٌ كأنني ذرة غبارٍ تطفو فوق صفحة ماء، لكنه في آنٍ واحد مثقلٌ، مُحاطٌ بسلاسل من خدرٍ لم أعهده من قبل. لا قدرة لي على الحركة، لا شعور سوى ذلك البرد المتسرب من مسامي، يزحف بهدوءٍ ليقتات على بقايا الدفء في دمي.

الأمواج تترنح بكسلٍ فوق صدري، ترتل لحنًا غابرًا تحمله الرياح إلى مسامعي المتيبسة. كانت تهمس، تنادي، تروي لي ما لم أدركه بعد. هناك صوتٌ في الأعماق، صوتٌ أعرفه... صوتٌ عالقٌ في طيات الماضي، يطفو مع رغوة البحر، يتسلل بين ثنايا الوقت ليحطَّ عند أذني.

لمسة كصقيع البلور حين يلامس البشرة العارية، كحريرٍ مغموسٍ في ضوء القمر، كانت تُحرك شيئًا ما بداخلي، شيئًا كاد أن يندثر. نبضي كان واهنًا، لكنه ارتجف تحت وطأة تلك الملامسة، تدفقت الحياة من جديدٍ عبر شراييني، كأن البحر لفظني ولم يشأ أن يحتفظ بي بين أمواجه.

أجفاني الثقيلة ارتجفت،  رموشي المبللة تهاوت كأوراق يابسةٍ ترقص مع النسيم. قبل أن أفتح عيني، رأيت النور يتسرب من بينهما، خُيل إليّ أنني عبرت إلى عالمٍ آخر، أنني عند أعتاب الفردوس، حتى اصطدمت عيناي به…


لؤلؤتان زرقاوان، بلون البحر حين يكون ساكنًا، بلون السماء حين تكون خاليةً من الغيوم، ترقبانني بصمتٍ عميق، كأنهما تنظران إليَّ عبر بُعدٍ آخر، عبر زمنٍ آخر،

خصلات شعره الأصهب، تتناثر بلطفٍ فوق جبينه، تحفها قطرات ماءٍ صغيرة، كأنها لآلئ عالقةٌ في خيوط المساء. كانت هناك قطعٌ صغيرة من الصدف عالقة بين تلك الخصلات، تشهدُ على نسبه، على انتمائه إلى شيء لا ينتمي إلى هذا العالم.

هذا الوجه... لا يمكن أن يكون بشريًا.

عيناي، رغم الغشاوة، رسمتاه بدقةٍ لا تخطئها الروح. مزيجٌ من الجمال النادر، الجمال الذي لا يُدرك بالعقل بل بالحسّ، كأن كل تفاصيله كانت منحوتةً من أصداف الزمن نفسه.

اللحظة التي نظرتُ فيها إليه، شعرتُ وكأنني رأيته من قبل. لكن الذاكرة خانتني، وكأنها غرفةٌ مغلقةٌ بأقفالٍ لا تملك مفاتيحها.

المسافة بيننا لم تكن سوى أنفاسٍ هائمة، كخطين على وشك التقاطع، على وشك الخروج عن المسار الذي رُسِمَ لهما منذ الأزل. قلبي، الذي كان واهنًا، بدأ ينبض على إيقاعٍ غريب، وكأن الزمن التفَّ حولي وعاد إلى الوراء.

تراجعتُ على الصخور، حاولتُ حمل جسدي المثقل بالماء بعيدًا عنه، بعيدةً عن تلك الهالة التي أحاطته كضوءٍ قادمٍ من عالمٍ لا يُرى.

شهقةٌ حادةٌ خرجت مني مع أول سعلةٍ، مياه البحر تدفقت من رئتيّ كأنني ألفظُ الموت نفسه، وكأنني أُنكرُ الرحيل، أرفضُ النهاية التي كنتُ قد اخترتها بيديّ.

لفحة هواءٍ باردة ضربتني، تسللت إلى عظامي المبللة، جعلتني أضم نفسي إلى ذاتي كغريقٍ يحاول الاحتفاظ بما تبقى من دفئه. أطرافي ترتعش، أسناني تصطك، لكن رغم ذلك، لم يكن البرد هو ما أزعجني…

كان هو.

لم يتحرك… لم يرمش حتى.

ظل هناك، نصفه غارقٌ في المياه، نصفه الآخر يستلقي فوق الصخر كأثرٍ منسيٍّ لعصرٍ لم يعد موجودًا. عيناه لم تفارقاني، نظراته لم تكن عابرةً ولا فضولية، بل كانت ثابتةً، كأنها تبحث فيّ عن شيءٍ مجهول، عن صدًى قديم، عن إجابةٍ ضائعة بين أمواج البحر وطيّات الزمان.

كان السكون يلفّه كوشاحٍ من الغموض، لا ارتجافةٌ في كتفيه، لا رعشةٌ في أصابعه، لا زفرةٌ تتسرب من شفتيه. لم يكن يبدو متأثرًا ببرودة الهواء التي كانت تنخر في عظامي، أو بالمياه التي كانت تلتف حوله كحجابٍ خفيٍّ يفصله عن هذا العالم.

كان كأنه جزءٌ من البحر نفسه، كأنه خرج من صميمه لاجتيازي، كأنه ظلٌّ للمحيط تشكّل في هيئة إنسان. تحت الضوء الخافت، كان وهجه يتراقص بين العتمة والضوء، مزيجٌ من الهدوء العميق، من الأسرار المخبوءة، من الأشياء التي لا تُفهم إلا حين يُكشف عنها الستار.

أكان حلمًا؟ هل كنتُ أهذي؟

شفتاي ارتجفتا بتساؤلٍ واهنٍ، بالكاد خرجت منه الكلمات...

ألا يشعر بالبرد؟!

غرق|| إرتعاشة الموج الأخير ⊳ p.jmحيث تعيش القصص. اكتشف الآن