«أسرعوا، أسرعوا! إنه ضوءٌ في آخر الطريق، ترى لمن هو؟ من يضيء؟ ما هذه الرائحة؟ إننا لنجد ريحًا طيّبة، إنها منهم، أولئك الذين أُنير الطريق بهم! من هم؟ ما هذه الملكة والوقار في حركاتهم؟ ما وجدتم فيهم؟»
«وجدنا نبلًا، إنهم نبلاء، نبلاء أمتنا!»
الحلم، وكظم الغيظ، والعفو عن المقدرة، كلهن خصال عظيمة، وبالأخص كظم الغيظ، فهو خلق عظيم من مكارم الأخلاق! فكم من لحظةٍ مرت بنا نغضب ولا نتمالك أنفسنا، نحطم الأشياء، نكسر الخواطر، أليس كذلك؟ كظم الغيظ ليس بالهين! وليس بخصلة سهلة المنال، أن تكبت مشاعر الغضب تلك ولا تبديها، أن تستفزك المواقف والذكريات والناس فلا تأبه وتطفأ نار غضبك، فلا تطلقها.. لسمة نبيلة أبعد مما نفكر به! ويقول الغزالي في ذلك: إن كظم الغيظ يحتاج إليه الإنسانُ إذا هاج غيظُهُ ويحتاجُ فيه إلى مجاهدةٍ شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادًا فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعبٌ، وحينئذ يُوصف بالحلم.
دعونا نتأمل سياق الآيات التي ورد فيها كظم الغيظ، إذ يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافين عن الناس والله يحب المحسنين (١٣٤)}
اقترنت صفة الذين يسيطرون على أنفسهم وقت الغضب، ولا يظهرون ردهم على عدوهم وهم يستطيعون، مع الذين ينفقون على أهلهم وأولادهم في اليسر والعسر ومع العافين عن الناس، يعفون عن المسيء ومستحق العقوبة! هؤلاء كلهم محسنون يحبهم الله تعالى! فانظر كيف هي صفة عظيمة! إذ ذكر ابن كثير رحمه الله من صفات أصحاب الجنة عند تفسير قوله تعالى فقال: إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.
هو الحِلم، به تتآلف القلوب، وتلتحم الشعوب، فلا الوالد التعب من العمل يغضب وينفر أهله منه وقت عودته، ولا الإخوة يكره بعضهم بعضًا وقت الغضب عند العمل أو عند اللعب، ولا الأصدقاء ولا الصحب يفرقهم حين الغضب الكره والجدال! فتلك الصفة -الحلم وكظم الغيظ- مهمة للغاية في البناء المجتمعي، وكيف لا؟ أوليس الله يحب حاملي هذه الصفة؟ أوليس الرسول -صلى الله عليه سلم- قد قال عنها أنها من القوة؟ إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب» فكيف لا تكون صفة نبيلة ترفع صاحبها! قد عرفنا الرحمة والمغفرة، ونبالة أصحابهما، وعرفنا علو شأن الصادق وقدر العالم وذكاء من آتاه الله الملك فعمل بشرع الله! فبينهم أولئك، أصحاب الحلم.. لهم قوة على أنفسهم، وقوة أينما كانوا، عندهم رحمة بالجاهل وترفع عن المعاملة السيئة بالمثل!
مِن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: «بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء مِن هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ، والصَّلاة، وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلًا مِن القوم فجاء بدلوٍ مِن ماء فشنَّه عليه»
فانظروا كيف هو خُلق النبيّ في التعامل مع الجاهل، أعرابي من البدو يجهل أن ما قام به لا يصح، فهل غضب الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ أو نهر الأعرابي؟ على العكس، لم يفزع الأعرابي ووضح له لاحقًا، هذا هو الحلم! ومن القصص المأثورة عن الصحابة قصة غلامٍ لأبي ذر -رضي الله عنه- قد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم. فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه. أعتقه! لم يضرب الغلام أو يؤذه، بل أعتقه وهو قادرٌ على العقاب! هذا إنما مقتضى الحلم الذي من الواجب علينا الوصول إليه والسعي لنيله، أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه، وصحابته والسلف الصالح في اتباعهم الرسول!
كان في الحلم ارتقاء للنفس البشرية واستقرار للمجتمع الإنساني، وكان للحلم فوائد وقصصٌ شتى ككمال العقل وسعة الصدر، ومنع الحسد ونشر المحبة بين الناس وامتلاك النفس! ويصعب على الفرد جمعها جميعًا وإحضارها، فهلم نقتدي، وهلم نعمل، اكتموا غضبكم، ففي تعلم كظم الغيظ راحة وعلو لا يشعر بهما إلا من كظم غيظه!
سير النبلاء في الحلم كثيرة، وكان لتلك الأحداث تأثير كبير! لكنا في هذا الفصل شاركنا قصصًا من السيرة النبوية العطرة الطاهرة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- خير من يقتدى بأفعاله الفضيلة وصفاته الحميدة!