«أسرعوا، أسرعوا! إنه ضوءٌ في آخر الطريق، ترى لمن هو؟ من يضيء؟ ما هذه الرائحة؟ إننا لنجد ريحًا طيّبة، إنها منهم، أولئك الذين أُنير الطريق بهم! من هم؟ ما هذه الملكة والوقار في حركاتهم؟ ما وجدتم فيهم؟»
«وجدنا نبلًا، إنهم نبلاء، نبلاء أمتنا!»
إنّ مَن درسَ سيرَ الصالحين والأنبياء وتعمق في خفاياها تيّقن من تلك الرسالات الدامغةِ، بل ووجد نفسه يغوص بين طياتِ أعمالهم الصالحة ويتعلم منهم، يمشي على خطاهم الحميدة، ولا يكسرُ كلمة الله بل ويطيعه بصفةٍ ممتازة متّخذا عبرة محددةً، فهي مبادئ زكية تبعد الستار عن قيمَ الجودِ وَالإنسانية، ولِمساوئِ عصرنا الحديث أمتنا في حاجة ماسة لهذه العبر القويمة، في حاجة لفهمها وللعمل بها دونَ أن تخطو خطوة للوراء حيث الجهل الشيطاني وَالمآرب البشرية الخبيثة.
ففي حديث عظيمٍ للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- يرويه عنه أنس بن مالك -رضي الله عنه-:{إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ} رواه الترمذي وحسنه.
فبدايةً يظهر جليًّا أن للابتلاءِ أهمية كبرى، إنه كمثل الاختبارِ الذي يوضعُ على عاتقِ الإنسانِ فإما أن ينجح فيه ويتخطّاه وإما أن ينهزم تحت وطأته. فنبينا إبراهيم عليه السلام وضع أمام خيارٍ واحد، أن يسَلِّم رقبة ابنهِ ويذبحه كطاعةٍ، وهنا تتجلى رحمةُ الله لعبادهِ فقد بعثَ بالخروف ليكونَ الأضحيةَ مكان الابن الذي لم يتردد للحظة ليطيع الله قبل أن يطيع والده.
وهنا تتجلَى قوة إيمان الشخص ومدى صبره على مختلف الأزمات القاهرةِ، وتظهرُ محاسنُ بذرةِ الصبر تلك إذ يكافئ المؤمن بمقدارِ تحمله، فمن دون ريبٍ يصبح أوضح مدى صحة اتصاف اللهِ بصفة الجبارِ الدالّة على جبر الخواطرِ.
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: {ألا إنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له.} والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة، والصبر معناه: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي والسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ( ذكره ابن القيم).
فالصبر من معالم العظمة وشارات الكمال، ومن دلائل هيمنة النفس على ما حولها، ولذلك كان الصبور من أسماء الله الحسنى، والصبر يمنح المسلم الأمل والنور إذا واجهته الأزمات ويمنحه الهداية الواقية من القنوط، والحديث عن الصبر يرتبط ارتباطاً وثيقًا بحياة النبي- صلى الله عليه وسلم- وسيرته بجميع تفاصيلها وأحداثها، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صبر ومصابرة وجهاد ومجاهدة ولم يزل عليه الصلاة والسلام في جهد دؤوب وعمل متواصل وصبر لا ينقطع منذ نزل عليه الوحي وحتى آخر لحظة في حياته.
كذلك فإن عدم نسبة الشر إلى الله وعدم النظر له كشرٍّ محض يعتبر من حتميات الصبر على البلاءِ بل شرط أساسي، كذلك أن يتأمل فيما وراءه من خير أو حكمة؛ عدم اعتقاد دوامه، بل يعتقد عدم دوام الحال، ويتفاءل بتغيّره لخير، فتلك سُنَّة الله في هذه الحياة الدنيا أنَّ دوام الحال من المحال.
هذا امتحانٌ قائم على نزاعٍ بين المؤمن وذاته البشرية، فيه يصبر على معتركِ الحياةِ ليظفر بالسلوى أخيرًا بعد أن جرَّب مرّ الأشجانِ للبلوغ لقداسة الصبر والإيمان بأن أمره كله خير بإذن الله، فالإنسان لما يتجلدُ بالصبرِ على مصائبهِ وَمعاناته يحصل على أجرٍ من دون حسابٍ فيصبح الصبر خيرًا لأصحابهِ.
فمن نحن لنرفض هكذَا هبةٍ؟ لا سيما وأنّ أنبياءنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد تميزوا بصفة الصبرِ الفضيلة أثناءَ حلهم للمشاكل التي تعترضهم أثناء تحقيقهم لهدف هداية الأفراد حولهم، فهذا الصبر ليس إلا رمزًا لفرح منشودٍ فالفرح يكون بالمحبوب بعد حصوله، ويكون كذلك قبل حصوله، إذا كان على ثقة من تحققه، وهذا هو الاستبشار.