الفصل الأول

1K 88 92
                                    

المكانُ حالكُ الظلام.. لا أستطيع تمييزَ أيَّ شيء من حولي.. حاولتُ الالتفات برأسي لأبحث عن شيء غير السواد الذي يحيط بي، لكنّه لم يتحرك.. كررتُ المحاولة، وأشملتُ سائر أعضائي في محاولاتي، دون جدوى.. إنّني كتمثالٍ من الحديد، لا يمكن تحريكُه حتى بالقوة.. 

كنتُ سأعاود المحاولة بعنادٍ أكبر حين لمحتُه؛ ظلٌّ لرجلٍ في الجانب الآخر من الغرفة، أو أيّاً يكن هذا المكان.. كان قاتمَ السواد ـ ككُلِّ شيءٍ من حولي ـ بشكلٍ لا يُظهر تفاصيل وجهه وجسده.. وبالرغم من ذلك استطعتُ تمييزه.. وكأنّ هالةً خافتةً تحيط به لترشدني إليه.. لكنّ رؤيته أثارت الرعبَ في داخلي أكثر من الظلام الذي يحتضنني من كل جانب.. وحين اتخذَ خطوته الأولى نحوي رجّ صوتُها في أذنَيَّ وكأنّه يسير عند رأسي لا على بُعد أمتارٍ كثيرة.. تضاعفت قوةُ محاولاتي في التحرّك وكان عقلي وقلبي يستصرخانني لكي أتحرك.. لكي أهرب.. لكن التمثال لا أملَ من تحريكه.. 

كان وقعُ حذائه على الأرضِ يعلو مع كلِّ خطوة.. يزيد رغبتي في الصراخ.. لكنني لا أملك القدرة على فعل ذلك.. أخذت المسافة بيننا تتقلّص.. وصوتُ خطواته المرتفع يهزّ أعماقي التي تناقض ثبات ظاهري.. توقف، توقف.. توقف!

فتحتُ عينَيّ على وسعهما وأنا ألتقط أنفاسي بصعوبة.. أحاول استيعاب ما رأيتُه للتو.. وإقناع نفسي بأنه كابوسٌ لا أكثر.. نظرتُ من حولي أدقق في تفاصيل الغرفة لأطمئن نفسي.. تبدو غرفتي على حالها بستارتها الأرجوانيّة التي تخترقُها أشعةُ الشمس.. وطاولة دراستي التي تتكدسُ عليها كتب الجامعة مع صحن المكسرات الذي لا غنى لي عنه أثناء الدراسة.. وفي الجهة الأُخرى منها تغطُّ أختي في نوم عميق.. ثم استقرّت عينَيّ على المرآة الطويلة ذات الإطار المميز الذي يتزين بعشرات المصابيح الصغيرة.. ها أنا في المرآة.. متعرقة.. منكوشةُ الشعر.. وشاحبةُ الوجه.. نهضتُ من على السرير وغادرتُ الغرفة وأنا أتلو المعوذات في قلبي.. دخلتُ المطبخ قبل أن أزور الحمام وملأتُ كأساً بالماء لأشربه دفعةً واحدة وأزيلَ شعور الجفاف عن حلقي.. المشكلةُ ليست في تفاصيل الكابوس وحسب؛ المشكلةُ في أنّني رأيتُه قبل يومين.. ذات المكان المظلم.. وذات الظل.. لكنّه لم يتحرك في المرة السابقة.. ما الذي يجعله أكثرَ جرأةً هذه المرة؟.. ولمَ أشعر بأنه ليس كابوساً عادياً؟..


*****


ساعدتُ والدتي في تجهيز الفطور على غير العادة.. فهذه أولُ مرةٍ أستيقظ فيها قبل رنين المنبه.. ثم انضمَّ الجميع إلى المائدة في غرفة الجلوس أمام التلفاز الذي لا بدَّ أن يعرِض الأخبار بوجود والدي.. فهو لا يفوّتُ فرصةً لسماع كلِّ جديدٍ أثناء وجوده في البيت.. كنتُ أتناول فطوري بشرود.. ما زال تأثير الكابوس عالقاً في رأسي، وفي أذنَيّ.. وبقيَ كذلك حتى في الجامعة.. إلى أن أثّر التفكيرُ على تركيزي للحدّ الذي جعلني أتعثرُ برصيف مدخل "السنتر" وكدتُ أقع على وجهي لولا أنَّ أحدهم أمسك بذراعي.. كان أحد الشباب الذين يقفون عند المدخل لتدخين السجائر وربما للاستمتاع بالنظر إلى الفتيات اللواتي يدخلنَ المكان من أجلِ شراءِ الأطعمةِ والحلويات.. سحبتُ ذراعي من قبضته بعد أن استعدتُ توازني وأومأتُ بشكل خفيف لأتابعَ مسيري مع زميلاتي بوجهٍ يشتعل خجلاً.. ربما كنتُ لأفضّل سقوطي على أن يمسك شابٌّ بذراعي أمام سائرِ الطلبة لتلوحَ بعضُ الابتسامات السخيفة على وجوههم وبعض النظرات التي تحمل ألفَ معنىً ومعنى.. سبقتُ رفيقاتي إلى أقرب طاولةٍ فارغة وجلستُ عليها لأدعي الانشغال بالبحث عن المال في حقيبتي فأتجاهل بذلك نظرات من رأى الحادثة..

جلست حوراء بجانبي وسما أمامي لتقولَ الأولى:

ـ ما خطبكِ اليوم؟

تمتمتُ دون أن أرفعَ رأسي عن الحقيبة التي كنتُ أعبث بأشيائها يميناً وشمالاً:

ـ لا أعرف، لكنني أتمنى أن يحصل زلزال يخفيني تحت الأنقاض بدل هذا الإحراج.

ضحكت سما لتقول:

ـ لا تفكري بالموقف المحرج، بل فكري بمن أنقذكِ من السقوط.

ـ ليتَهُ لم يفعل.

ـ إنكِ تركلين النعمة عنكِ أيتها الساذجة، هل تعلمين أنّه يدرس طب الأسنان في المرحلة الأخيرة؟

لا أستغربُ معرفةَ سما بتلك التفاصيل.. لأنّها تعرف الكثير عن الطلبة بفضل شقيقتها التي تسبقنا بثلاث مراحل في قسم القانون.. رفعتُ رأسي أخيراً بعد أن انخفضت حرارة وجهي:

ـ وكيف لذلك أن يجعلَهُ نعمة؟

ـ لأنّه يحمل شهادةً مرموقة، شخصية متزنة على عكس رفاقه الذين يتمتعون بالسخافة، والأهم.. إنه وسيم.

لا أذكر أنه كان وسيماً، لكن ربما لأنني لم أنظر إليه من الأساس.. نهضتُ من على الكرسي لأشتري شراباً بارداً يساعدني على تحمُّل محاضرةٍ أخرى..

*****

إنّهُ المكانُ المظلم من جديد.. الغريبُ أنني صرتُ أعرف أنّهُ حلم.. لذلك لم أحاول الفرار حين اتخذ خطواته الأولى نحوي.. كانت صاخبةً كالمرة السابقة.. صوتُها يصل إلى أعمق نقطةٍ في داخلي ليجعلها ترتجفُ مع كل وقعٍ لها على الأرض.. توقف عن المسير حين بقيت خطوةٌ واحدةٌ تفصل بيننا.. ما زلتُ لا أستطيع رؤية شيء منه سوى الهالة الخافتة التي تحيط به.. لكنَّ طوله أصبح واضحاً.. إنني أتجاوز كتفَهُ ببضع سنتيمترات.. حبستُ أنفاسي وأنا أنتظر نهاية الحلم.. لكنّه لم ينتهِ.. بل شعرتُ بأصابع الرجل تلامسُ ظهرَ كفي.. فحذّرَني عقلي بذعر من التطور الجديد.. لكن جسدي لم يستجب لذلك التحذير وظلّ ساكناً في مكانه.. تمادت أصابعُ الرجل لتلتفَّ حول يدي بعناقٍ دافئ، نعم.. دافئ.. كيف لحواسي أن تعملَ بهذا الشكل الواقعي في الحلم؟.. أليس ما يميّزُ الأحلامَ أنّكَ تفقد فيها حواسك؟.. فلمَ أشعر بلمسته؟.. لمَ أشم عطره الذي يبدو مألوفاً؟..

داعبت أصابعه يدي برفق جعل قشعريرةً تسري في عمودي الفقري..

ـ لقد اشتقتكِ..

 ارتعدت أعماقي عند سماع صوته العميق.. ولو أنّهُ لم يكن هادئاً رقيقاً كلمسة يده لاستيقظتُ الآن من شدة فزعي.. 

ـ اشتقتُ لعينيكِ الناعستين.. التي تلمع حين تبتسمين.. اشتقتُ لوجنتيكِ التي تتوهجُ خجلاً كلما أطلتُ النظر إليكِ أو كلما ألقيتُ بكلمات الغزل دون شعورٍ مني.. اشتقتُ.. لوجودكِ بقربي.. فهلاّ عدتِ إليّ؟..

من أنت؟.. أين أنا؟.. لا يمكن أن يكون هذا المكان حلماً.. لا يمكن أن يكون هذا الرجل تأليفاً من عقلي.. شعرتُ بارتخاء قبضته على يدي.. تُفلتني ببطء لتفترقَ عني كلياً.. أحاط البرود يدي من كل جانب.. بعد أن كانت تنعم بدفء تلك اليد أصبحت مهجورة وباردة.. ثم بدأت خطواته بالتراجع.. تبتعد عني بهدوء كما تقدمت بهدوء..


وبدينه قصة جديدة..😎
رأيكم بالبداية وتوقعاتكم عن القادم؟
نلتقي باجر بفصل جديد إن شاء الله..❤️
لا تنسون التصويت وتعليقاتكم الحلوة..💕


لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن