بَوحْ

126 8 33
                                        

خَرجت مِن المنزل وهي تقفل الباب ورائها بهدوءٍ وحذرٍ شديدين، وهي تخشى أن تصدر عتبة بابهم صوتًا يفضحها، تظن أنه سيُوقظ النائمين الذين في أَسرَتِهم، أو صوت صرير الباب و المفتاح الذي يُدار الآن، كما لو أن الأصوات التي حولها ستتضخم وسيتسع صداها لتَصِل لآذان الجميع وتجعلهم يفيقون من سباتهم وفراشهم الدافئ لينزعجوا من هذه الأصوات فيكشفونها ويشهدون على خروجها في هذا الوقت الباكر من الصباح.

شَدت على معطف الجلد الذي ارتدته، بينما البرودة تحاول التسلل لها من أي مدخلٍ لم تستطع سَدهُ.

فقد عَلمت بالبرد الذي استقبلها عندما أطلت من نافذة غرفتها لترى السماء السوداء المُلبدةِ بالغيوم الداكنة التي تتحمل أثقالًا تُنذر على أن تضعها أرضًا، والنسيم الذي ولج لغرفتها ورحبت به كضيفٍ خفيف لا يثقل عليها بمجيئه، لكن بعضًا من تبعات الرياح القصيرة قد هبت لتُنذر الساكنة بأن الجو ربما يتقلب بين حينٍ وأخرى.

أخذت معطفًا أسود اللون يكسيه الجلد من خارجه والفرو من داخله، ولم تبخل على رقبتها بوشاحٍ سميكٍ بلون العنب الداكن.

ما أن وضعت المفتاح في جيب معطفها، وابتعدت عن ساحة منزلها إلا وأطلقت العَنان لِساقيها، وهي تسابق الرياح التي كانت بنفس اتجاهها، وآثار البرد قد بدت للعيان ظهورها على وجهها، وأنفاسها تتشكل على هيئة سُحبٍ صغيره تخرج من فمها.

احمرّ أنفها وخديها نتيجة البرد، وشعرت بتسلل ألم الصقيع لوجهها، فباتت ترمش في الثانية عدة مرات فتحجب عن العالم عيناها الداكنتان، المعاكسة للون بشرتها المُحمرة.

امتدت أصابع يداها لتحكم الإمساك بحجابها الذي أسدلت جزءًا منه لتغطية وجهها، كي لا ينجلي عن وجهها.

لم تكن تعلم إلى أين يجب عليها الذهاب، فقد أرادت التحرر من الجو الخانق الذي يحيطها، فلم تعد تطيقه أو تحتمله، أصبح ألمها حِملًا ثقيلًا على قلبها.

لَمحت منتزهًا صغيرًا يُرى للمَار بجانبه محيطه الصغير، وما زاد رغبتها بالدخول إليه أن مصابيحه ما زالت مُضائه، فولجت بقدمها اليمنى إليه وهي تُسمي بالرحمن.

جالت بناظريها على المكان الذي امتد فرشًا من اللون الأخضر، وساحة ألعابٍ للأطفال في وسط التراب الخاص بها، وقعت عينيها على كُرسي بجانب إحدى أعمدة الإنارة المُضاءة، فاتجهت إليه وجلست عليه، ثم رفعت رجليها إليها وهي تثنيهما وتضمهما بيديها إلى صدرها، ورفعت الجزء المسدل على وجهها وأخيرًا..

سمحت للسد الذي ظلت تبنيه أن ينهار، لكل تلك الحواجز أن تتكسر، لم تعد تحتمل أكثر، فهي ليست قوية كما يظنها الكثيرون ، وليست ضعيفة كذلك حتى تنهار مع أقرب سبب، لكن الآن آن لها أن تخرج كل ما بداخلها، فقد فاض قلبها من كل تلك الأحاسيس التي تراكمت فيه.

كِتمانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن