الفصل العاشر

61K 1.5K 57
                                    

أمام مراَتها كانت تمرر الفرشاة على وجهها وهي تضع في مساحيق التجميل المتعددة ببطء وتمهل، متجاهلة عن قصد دوي هاتفها بمجموعة هائلة من الإتصالات التي كانت تنظر لها باستخفاف ثم تعود لما تفعله بعدم اكتراث للوقت أو مايتبعه من عواقب في التأخير، ركزت بدقة على كل تفصيلة بوجهها غطتها وجملتها بحرفية عن خبرة سنوات؛ لما تفعله منذ أن تخرجت من المعهد مع زهرة ، ثم انتقلت للعمل بالمحلات كبائعة او المطاعم كنادلة، فاكتسبت خبرة في الإحتكاك والتعامل مع جميع اصناف البشر ، عكس ابنة خالها التي ظلت محتبسة البيت بعد تخرجها، معتمدة اعتمادًا كليًا على خالها الذي كان يُحاوطها برعاية وحمائية مثيرة للإستفزاز قبل أن تأتيهم الفرصة معاً في الإلتحاق بالعمل مع كاميليا بشركتها، وتساوت الرؤوس بينها صاحبة الخبرة والممارسة العملية وبين ابنة خالها المحظوظة والتي خرجت من منزلهم على مقعد السكرتارية مباشرةً؛ فلم ينل منها تعب المناهدة مع الزبائن في المحلات أو تتوجع اقدامها من الوقوف طوال اليوم كنادلة في المطاعم الرخيصة، انتبهت هذه المرة على صوت اَخر لجرس المنزل، توقفت قليلًا تستمع لبعض الأصوات التي تداخلت مع صوت والدتها التي فتحت الباب، ثم تفاجأت بها بانعكاس صورتها في المراَة وهي تقف خلفها بوجه متجهم وعابس:
- انتِ لسة واقفة قصاد المراية وبتتمكيجي ياغادة ؟ مش واخدة بالك ياهانم من الساعة ولا بالتأخير اللي اتأخرناه ، دا انا بقالي ساعة برن عليكي وانتِ حتى مكلفتيش نفسك تردي عليا؟ يعجبك كدة عمايلها البت دي ياعمتي؟
- يرضيني بقا ولا مايرضنيش، هاعملها ايه انا بقى ؟ اهي قدامك اهي؛ اتصافوا مع بعض .
قالت إحسان وكأن الأمر لا يعنيها، ثم تحركت تخطو للخارج بهدوءٍ غريب اندهشت له زهرة، ثم انتبهت على قول غادة التي تحدثت هي الأخرى ترد عليها :
- ياستي مرة في التاريخ تتحسب فيها مجيتك ليا عشان تستعجليني عالشغل زي ما بعمل انا كل يوم ، وبتحمل كلام رقية وتريقتها من غير ما اشتكي .
- مجية ايه وهباب ايه ؟ في ايه يابنتي احنا متأخرين بجد والله، اخلصي الله يخليكي مش عايزة اخدلي كلمتين من جاسر الريان لو اتأخرت .
لوت ثغرها وهي تغمغم أمامها :
- ايوة بقى عايريني بالشغل الجديد والترقية ، ماانا عارفه وفاهمة لوحدي مش محتاجة تفكريني يعني .
- أفكرك بإيه يابني أدمه انت بقولك متأخرين، دا وقته كلامك ده؟
هتفت بها زهرة حانقة نحوها، ردت غادة وهي تدنوا نحو على الأرض :
- ثواني طيب هالبس الجزمة بتاعتي
صرخت زهرة بعدم سيطرة :
- كمااان، لسة هاستناكي على ما تلبسي الجزمة؟ دا شكلي انا اللي هالبس النهاردة وانول غضب هولاكو!
..............................
بعد مايقارب الساعة كانت زهرة تقف على أعصابها بجوار غادة في مصعد الشركة وهي تنظر للساعة كل دقيقة ، تتمتم بقلق :
- يا نهار اسود المواصلات عكت معانا وزودت التأخير، مصيبة بقى لو كان وصل هو قبلي ، دا مش بعيد يطرني اصل انا عارفاه دا بيتلككلي .
مصمصت غادة بشفتيها تردف لها بصوت مسموع :
- ياسلااام ، على أساس بقى ان الراجل حاطك في دماغه ؟ هو فاضي يفتكرك اساسًا ؟
لم ترد زهرة وتجاهلت تهكمها للتندمج في النظر نحو العداد الإلكتروني في انتظار الوصول لطابقها، حتى اذا توقف المصعد خرجت سريعًا وخلفها غادة التي تقابلت عيناها فور خروجها بهذا الرجل ثقيل الظل الأسمر ، يغمز لها بعيناه قبل ان يدلف لداخل المصعد في الجهة الأخرى تقبلتها بتكشيرة بوجهها أمامه، ولكن عقلها تيقظ فور ان تذكرت انه حارس جاسر الريان الشخصي ، نظرت نحو زهرة التي كانت تهرول مسرعة بالرواق الطويل ، فومضت برأسها فكرة خبيثة، لتنفذها بدون تأخير؛ وبحركة مفاجئة صرخت على زهرة توقفها :
- اَه ، الحقيتي يازهرة .
استدارت اليها زهرة مجفلة على صوتها فوجدتها متكورة على نفسها بجانب الحائط ، واضعة كفها على رأسها ، تأن بألم :
- اللحقيني يازهرة، حاسة نفسي مش قادرة اكمل .
ارتدت عائدة اليها تسألها بخوف مختلط بالأندهاش وهي تقترب منها :
- مالك يابنتي ؟ ايه اللي حصل ماكنتي كويسة.
ردت غادة متصنعة الألم :
- مش عارفة يازهرة، فجأة كدة حسيت بدوخة جامدة اوي ، ااه ، دا بابنه ضغط دا ولا إيه ؟ انا حاسة نفسي هاقع اسنديني يازهرة .
- طب يعني اروحك دلوقتِ ولا اعمل معاكي ايه بس ؟
قالت زهرة بتوتر وهي تسندها بيديها الاثنتان، تشبثت بها غادة أكثر تجيبها ، لا يازهرة انتِ بس وصليني مكتبي ، ولا اقولك وصليني على مكتبك اقرب ، اخد نفسي بس الاول وبعدين نشوف .
- طب تعالي بقى وربنا يستر .
أذعنت زهرة توافق على طلبها على مضض وهي تعود لساعة يدها كل دقيقة تحتسب الدقائق التي تمر على تأخيرها عن ميعادها وهي تسير بخطواتِ بطيئة مع غادة التي تتحامل بثقل جسدها عليها .
حينما وصلت للغرفة الواسعة توقفت على مدخلها بأعين جاحظة من الخوف ، وهي تراه أمامه متكئ بجسده على طرف مكتبها وكأنه في انتظارها ، بوجه متجهم عاقد حاجبيه المقلوبان وهو ينظر نحوها بتحفز ، ابتلعت ريقها الذي جف على الفور من الخوف فقالت لغادة وهي تتركها :
- استني هنا ماينفعش تدخلي دلوقتِ .
حاولت غادة التفوه بكلمة ولكن زهرة لم تعطيها فرصة وهي تخطو بتردد وخوف نحوه ، حتى اذا وصلت قالت بأدب :
- صباح الخير يافندم .
رفع حاجبه الشرير يجيبها بنبرة مريبة باعثة للخوف أكثر بقلبها:
- صباح الخير!! دا على أساس انك واصلة في ميعادك مش قريب على ادان الضهر .
- أدان الضهر ازاي بس يافندم الساعة لسة ماتمتش تسع......
قالت ببرائة لتنتفض فجأة على مقاطعتهِ لها بصحية قوية جعلت جميع جسدها يهتز مرتدُا لخلف .
- وليكِ عين تقوليها كمان قدامي ، بعد ماسبتيني انتظرك بالنص ساعة .
ارتعشت شفتها وتلعثمت وهي لا تقوى على تجميع كلمة مفيدة أمامه :
- ممم ماهي بنت عمتي...
دوى صوت غادة من ناحية الباب تردف له متصنعة اللهاث:
- هي ملهاش ذنب يا جاسر باشا، انا اللي أخرتها لما تعبت ودوخت فجأة وهي كانت بتسندني .
انتبه لها فرمقها بنظرة مخيفة قبل أن يصيح بصوتِ جهوري اهتزت له أركان المكتب :
- ارجعي على مكتبك يا اَنسة ولو تعبانة روحي على ببتكم، معنديش انا وقت للكلام وللتفسير .
فغرت غادة فاهاها ببلاهة وعدم استيعاب فهدر عليها بقو اكبر:
- بسرعة يالا.
انتفضت تهرول بجزع أمامهم، متناسية ادعاءها المرض، فعاد جاسر يومئ بسبابته لزهرة نحو اثرها :
- هي دي اللي كانت تعبانة وبتسنديها ؟
صمتت زهرة لا تقوى على جداله ، فخاطبها يجز غلى أسنانه :
- موضوع التأخير ده ما يتكررش تاني، اوصل انا المكتب الاقيكي في انتظاري، فاهمة .
اومأت برأسها بألية وتابع هو :
- انا داخل مكتبي، عشر دقائق والاقيكي داخلة بملفات مصنع الأسمنت.
اومأت مرة أخرى وهي لم ترفع عيناها اليه فذهب لغرفة مكتبه لتسقُط هي على مقعدها مطلقة السراح لدماعاتها التي كانت تهطل بغزارة ، وهي تكتم شهقاتها وتفعل ما أمرها به بقهر .
..................................

نعيمي وجحيمهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن