الجزء 16

3K 160 8
                                    

مستشفى الراهبات

العلاج الثاني

مع أنها كانت تتلوى من ألم الضربة ، وتتوجع من كدمات الحادث ، إلا أنها كانت على قدر عال من الحياء بحيث تحتمل الألم ولا تتأوه كي لا نسمع صوتها !

أيُّ تدين هذا الذي يجعل النفوس تستحي وتكتم مع شدة الموقف ، وسيل الدماء ؟!

سرتُ بالسيارة مسرعا كالبرق وانا اتخطى المدينة تلو الاخرى جاريا كجريان البواخر في البحار ومع اني كنت اتخطى السيارات من دون النظر الى المرآة الخلفية كي لا تقع عيني عليها الا اني كنت حذرا جدا مع هذه السرعة وفي وسط صمت وارتباك ...

صاح بي الشيخ يقظان
ـــ علكيفك بابا ، على شنو السرعة ؟!
ـــ صار بابا صار !

[ كلمة ـــ بابا ـــ كأنها نسمة هواء باردة على قلب يتلوى كتلوي السمكة التي اخرجوها من البحر ، هؤلاء يتعاملون بالحب في أحلك الضروف واشد المواطن ... من أين جاءوا بكل هذه الحب والعطف ؟! ]

وصلنا مستشفى الراهبات وقد أدخلوها الى الدكتور المختص فيما بقينا انا والشيخ خارج الردهات ننتظر أخبارهم

قال لي الشيخ : سموا القلب قلبا لأنه يتقلب بين الخوف والرجاء والحزن والفرح والاضطراب والسكون ـــ واذا بقى على هذا الحال ـــ ما راح يصير (بيت الله)

وين اكو بيت يتحرك ؟!!!

قال مولانا جعفر الصادق (عليه السلام) : ( القلبُ حرمُ اللهِ ، فلا تُسكن في حرمه غيرَه )

ــ سنبلةُ القمحِ لا تحملُ تمرَ مريم ، انما تحمل ظِلال عيسى نخيلٌ باسقةٌ !!

وقعت كلمات شيخي كالماء البارد على قلبي ، وشعرت وكأنها سُحب سكينة عمت وجودي ، ابتسمت لا اراديا وقلت :

الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله

ـــ قلت له : شيخنا شنو رأيك تكمل لي موضوع العلاجات اللي بديناها بالمسجد ، علما يطلعون الجماعة من الدكتور ؟!

ـــ ابتسم قليلا ثم قال : احسنت وبوركت همتك العالية في الطريق !

تعال نجلس في مكان ما ...

جلسنا في مكان مطل على الرداهات فشرع قائلا :

ـــــ تحدثنا عن العلاج الأول وهو العلاج العلمي ومفاده أن يطلع الانسان على حقيقة الملكات السيئة ، والذنوب الكبيرة ، ويعرف آثارها ، وعقوباتها ، وطرق علاجها ، يعرف ذلك كله من القرآن الكريم ، وأحاديث النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، وكلمات العلماء الربانيين وآثارهم ... وقد حدثتك عن هذا مفصلا ...

واما العلاج الثاني وهو أهم من الأول وهو الذي عليه مدار المجاهدة ولا قيمة لأي علاج دون هذا العلاج وهو العلاج العملي لكل ملكة ويستغرق اربعين يوما لكل واحدة على أقل تقدير ...

ــــ ماذا نعني بالعلاج العملي ؟!
ــــ يعني ان نبدأ عمليا بمعالجة الملكات السيئة فنضعفها تدريجيا الى ان تموت شيئا فشيئا ...

ــــ شلون يصير هذا الإضعاف وهذه الاماتة ؟!

ــــ الطريق العملي يمر بعدة خطوات تضعف من خلالها الملكات وهذه الخطوات هي :

أولا ـ المشارطة : أن يحدد الملكة الأولى ـ الأسهل ـ فيشترط على نفسه أن لا يعمل بها اليوم ، يقول لها :

يا ايتها الموغلة بالخطايا الى متى هذا الابتعاد ؟! الى متى انت أسيرة هذه الصحاري القاحلة ؟!
ثم تلتفت اليها بهمة عالية وارادة راسخة وتصرخ بها : كفى ايتها الكسولة العاجزة ، كفى ايتها المتمردة الظالمة ، حان الآن موعد الرجوع الى الله تعالى وانا اشترط عليك ان لا ترتكبي المعصية طوال هذا اليوم ثم تنتقل الى الخطوة الثانية ...

ثانيا ـ المراقبة : فيبدأ بمراقبة نفسه ، وأحواله ، وأقواله ، وأفعاله وكل تصرفاته ، بأن ينتبه الى هذه الملكة التي حددها ولا يقترفها ابدا ، طوال اليوم ينتبه لنفسه ويراقبها ويشدد على ان لا يقوم بهذه الملكة السيئة الى موعد نومه !

ــ المراقبة يا عزيزي حسن أساس السير والسلوك ، وسنام جهاد النفس ، وأصل العلاج العملي

المرحوم العارف السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب الميزان كانت آخر وصية له قُبيل وفاته هي : المراقبة المراقبة المراقبة !

ثالثا ـ المحاسبة : بعد ان يراقب نفسه طوال اليوم ، وينتبه الى كل اقواله وافعاله وحركاته وسكناته يأتي الآن دور المحاسبة فيجلس مع نفسه قُبيل النوم ويحاسبها كما يحاسب الشريك شريكه !

هل قامت بعمل هذا الذنب اليوم لم لا ؟!
انا قد شرطتُ عليك صباح هذا اليوم ان لا ترتكبي هذه المعصية طوال اليوم فها ارتكبتيها ؟!

فأن كانت النفس قد اقترفت هذه المعصية سهوا او عمدا عاتبها ووبخها وجدد التوبة واستغفر واشحذ همته على ان يؤدي العمل من جديد

وان كانت النفس قد طاوعته ولم ترتكب المعصية سجد لله تعالى شكرا وقرأ مناجاة الشاكرين لمولانا زين العابدين السجاد (عليه السلام) وطلب من الله تعالى ان يعينه على ايامه الباقية ...

ـ وبينما انا منهمك في الاستماع وقد اعطيت مجامع قلبي لشيخي واستاذي واذا بعيني تقع على باب الردهة وقد خرجت زينب وهي بحالة يرثى لها ، وقد جبَّروا يدها ولفوا رأسها بقطعة قماش فوق حجابها ، شعرت كأن السماء وقعت على رأسي واعترتني حالة شديدة من الذهول المزيج بالحزن ...

نهضنا انا والشيخ يقظان واستقبلناها ووالدها وأخوتها ...
ـــ الحمد لله على سلامتكم !

قلت هذه العبارة وانا في وسط الشعور بالانكسار والحزن وقد ردت عليَّ بخجل بالغ
ـ الله يسلمكم أخي .
ركبنا السيارة ورجعنا الى بيتهم في مدينة الصدر وقد كان الشيخ يقظان يدعو لها طول الطريق...

يتبع ...

رحلة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن