قصر الملك ـ الحلقة السادسة عشر

Start from the beginning
                                    

رفعت الطبيبة عينيها إلى سيدي للمرة الأولى وقالت هادئة:

لَطالما رضيَ الفقير بالسَيّء خِشية الأسوأ .. مَن يحبونك حين يشتاقون لِأهلهم ولِبلادهِم سيمْقُتونك وسيمْقُتون بلادك كما مَقَتوا حُكامهُم لن تغفر لكم زوجةُ أحدهِم أو ابنته ذلك الفراق .. كان عليك أن ترى دموعَهُم أمام سجن بيجاناَ يوم رحيلنا كنت ستعلم وقتها سيدي أنه لا يوجد ميزان عَدْلّ كانت إحدى كفتَيه حرية امرئ..

فصَمت الملك قليلا ثمَ قال:

تتحدثين عنهم ليس عنكِ لستِ فقيرة مثلَهم .. ما الذي جاء بك إلى هنا؟

فابتسمت الطبيبة وقالت:

تركت روحي للقدَر وعلِمّت أنهُ لن يخذِلني..

فسألها:

ما اسمكِ أيتها الفتاه؟

أجابته:

اسمي أسيل سيدي

يسألها مجددا: وما قصتُكِ؟

كانت الطبيبة أسيل جميلة حقا جمالٌ اصطبغ بقسوة أيامها فباتت كالماسة التي أثقلَتُها النيران وبدأت تتحدث إلى الملك عن حياتها بزيكولا منذ دخولها إليها حتى أصبحت طبيبة زيكولا الأولى دون تفاصيل كثيرة كانت أخبرتها لي حين عَبرنا بحر مينجا معا تحدثت عن قوانين زيكولا التي كانت تفخر بها لسنوات طويلة ثمَ مَقتَهَا حين عاشت عناء الفقر وأهله وابتسمت ابتسامة مُرة وقالت:

كنت أنا مَن يختار الأفقَر ليخوض الزيكولا فلَفحني قدَري وجاء الوقت ليذبح مَن أحب..

ثم صمتت لحظة ونظرت إلى الأرض أمامها وابتلعت ريقها وأكملت:

لم يكن يستحق الموت .. أعطيتهُ مِن ثروتي قبل ذبحه لِينجو وغادرت زيكولا فأعلنني حاكمها خائنة وساقني القدَر إلى هنا..

فقال الملك:

إذن أعتدتي أن تخوني قوانين بُلّدانك

أجابته:

القوانين غير العادلة ليست بقوانين سيدي

فقال:

وإلى أين كانت جهة سفينتكُم؟

فسألَته باسمة:

هل ستَعبُر بي مجدداً؟

فأجابها باسماً:

لا لست مثلكِ لا أحيد عن قوانين بلادي

فابتسمت وقالت:

إذن فلتسمح لي أن أحتفظ بهذا السر يا سيدي..

فقال الملك:

ألا تخشين موتك بساحة قصري؟

أجابته:

لن يختلف كثيرا عن موت على سفينة مشتعلة كان يحيطَها الماء مِن كل جانب..

فابتسم الملك ثمَ فوجئنا به يشير إلى أحد الجنود بأن ينزع أغلال الطبيبة قبل أن يشير إليَ قائلاً:

اصعدي بالطبيبة إلى الغرفة الشرقية وإهتمي بِشؤون معيشتها إنها ضيفتي مِن اليوم..

وقتها أدركناَ أنَ الطبيبة باتت على حافة شأن عظيم..

غادرنا البهو الملكي فابتسمت لي الطبيبة وإحتضتني والدموع تلمع بِعينها ثمَ صعدتُ بها إلى الغرفة الشرقية أفخم غرف القصر لم تتحدث كثيراً كنت أُدرك حاجة جسدها المُنهك إلى الراحة فتركتُها بعد أن أخبرتها إنني وثلاث مِن الوصيفات سنتولى شئون ضيافتها ..

ما إن نالت الطبيبة راحتها وبدَلت ثيابها الرثة بِفَساتين صممت خصيصاً مِن أجلها حتى أبهرت مَن بالقصر بجمالها وبنقاء روحها التي عبقت بكافة أرجائه منذ اطلالَتِها الأولى وسرت همهمات الفتيات مِن حولي عن نظرة الملك إلى الطبيبة وتوقف الشراب بحلقِه حين دَلَفَت إليه بِفُستانها الأنيق بعدما طلب لقائها للمرة الثانية يومها الثالث بالقصر ..

ثمَ تعددت لقاءاتها كثيراً إما بِبهو القصر الرئيسي أو بِمكتبتِه أو بِحديقتِهِ الخلفية .. كانا يتسامران لساعات وساعات كأنهما لا يشعران بالوقت مِن حولهما يتناقشان بأمور شتى وقضايا مختلفة كانت إن تحدثت استمع إليها وإن تحدث جادلته فَينهض إلى أرفُف مكتبتِه ليُحضِر كتاباً مُدعما قوله بما ذَكره مؤلفه فَتزيد جدالها جدلاً فإن أقنعته ألقى بِكتابه إلى نيران مدفأته معلناً إنتصارها وإن أقنَعها قالت مداعبةً لهْ:

- ربما

قبل أن تُكمِل باسمة:

ولكن لنا جولة أخرى سيدي..

وعلى نحو أربعة أشهر لي بالقصر لم أرى تلك النظرة على وجه الملك لإمرأة مثلما رأيت نظرته إلى الطبيبة خلال تلك الأيام سبعة عشر يوماً كانت كافية لنُعلِن أن قلب ملِكَنا قد تعلق بِذكاء ابنة بيجاناَ طبيبة أماريتا الجديدة ..

سارت الأمور جميعها على خير ما يرام أُقسم أنني لم أشعر بِبهجة هذا القصر مثلما شعرت بها تلك الأيام قبل أن تنقلب فجأةً رأسً على عقب دون مقدمات .. فجر تلك اليوم حين أيقظتنا صرخات شديدة مدوية مزقت سكون الليل فنَهضنا جميعاً وركضنا نحو الغرفة مصدر تلك الصرخات يتقدمنا الملك تميم بثياب نومه لتتسمر أقدامنا وتجمُد أجسادنا حين دَلَفنا إلى الغرفة ووجدنا الطبيبة راقدة على أرضيتها زائغة العينين ينتفض جسدها لا إرادياً بقوة وتصرخ صرخات ترُج الجدران مِن حولنا ممسكه برقبتها تُنازع إختناقها ثم توقف جسدها عن إنتفاضاته رويداً رويداً لتنظر إلى سيدي الذي أقترب منها نظرة لن أنساها ما حييت كأنها تتوسل إليه بأن ينقذها قبل أن تغمض عينيها وقد أصبحت شاحبة شحوباً لم أرى مثيله في حياتي .....

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now