الشاشة السوداء على الحصان الأبيض

375 34 25
                                    

في البداية، لم أكن زوجة لفارس بقدر ما كنتُ زوجة لشاشة البلازما يعرض 22 بوصة، وضاءة الجبين عريضة المنكبين، ناعمة الملمس، بإطارها الأسود الصقيل، شاشة أحلامي! الشاشة السوداء على الحصان الأبيض، الأكثر وسامة من كل رجال العالم، العظيمة مثل بلورة سحرية، زاخرة بآلاف العوالم القادرة على تهريبي خارج حقيقتي، وغمسي في المجاز ومجاز المجاز، ومنحي حيوات مختلفة ومختلفة، بلا سراديب ولا أشباح ولا ضربات نعلٍ على فخذي ولا أيدٍ تحشر الطعام في فمي حشراً.. وكأن الحياة لم تركب قطار الحياة وترحل.

في اليوم الذي تلا زواجي، شعرتُ بدفقة الدماء الحارة والمستثارة في صدغي وأنا أقف على مصاف المكتشفين العظام، لأكتشف - بذهولٍ عارم وفمٍ مفتوح - قناة فضائية اسمها MBC2، خاصة بالأفلام وحدها، تسردُ الحكايا على مدار الساعة، مثل جدة مستحيلة لا تموت.

- هذه قناة للأفلام فقط ؟

سألتُ فارس، المتململ في جلسته بسبب رفضي مغادرة الجناح منذ الصباح، سأل مستنكراً؟

- MBC2؟

- نعم.

- ألا تعرفين هذه القناة ؟

- أفلام على مدار الساعة؟ كيف يعني؟

- ما الغريب في الأمر؟

- هل توجد في الدنيا أفلام تكفي للعرض على مدار الساعة، لسبعة أيام في الأسبوع، لثلاثين يوماً في الشهر، ل365 يوما في السنة؟

ضحك فارس من أعماقه. لم أُجرح، كنتُ مهتمة بالحصول على أجوبة وحسب. عاودتُ السؤال:

- منذ متى والبشر يصنعون الأفلام؟

- لا أدري! منذ شارلي شابلن؟

- من ؟

- كيف يمكن أن لا تعرفي هذه القناة؟

- آه. حسناً، أنتَ تعرف، أمورٌ كهذه تحدث.

نعم تحدث.

اليتم يحدث. اختطاف الطفولة يحدث، أن تحبس في سرداب، أن تحرم من الدراسة، أن يسرق منك حب حياتك، أن تُحرق كتبك، أن تغرق قصائدك في شبر الدموع، أن تسحل خارج قصيدتك، أن تشد الأيادي من شعرك، أن تبلل ثيابك من الرعب. كل شيء يمكن أن يحدث لك، إلا قناة فضائية تعرض الأفلام على مدار الساعة.

- التلفزيون في بيتنا مشفر.

قلتها على سبيل التوضيح، لا الاعتذار، ثم أدرتُ ظهري لأتابع الفيلم بكل الإخلاص في قلبي. السيد التلفزيون، زوجي الأوّل.. أبقيه يقظاً طوال الوقت، حتى عندما أغادر الغرفة، حتى في وقت النوم، وأثناء القراءة. ضجيجه الخلفيّ يقولُ لي بأنني خرجتُ من السرداب. وطوال مدة زواجي كان فارس يتذمر: ألا نطفئ التلفزيون هذا البيت أبداً؟

لا.. نحن لا نفعل، إذا أطفأتهُ سينتابني الرّعب، سينقضّ عليّ الصمت وتلتهمني الوحدة، ستعود الأشباح، التفاح المسموم، الشياطين التي تعشش في سواد المرايا، سوف تعود الصراصير والجرذان والأيادي الكثيرة التي تهبطُ من علياء طغيانها على جسدي. إذا أطفأت التلفزيون سوف يغيبُ كل شيءٍ وأعودُ - مسافرة عبر الزمن - إلى ذلك الجحيم الذي خصصّ من أجلي. سأحسّ بي هناك، مقذوفة في اليتم الفاحشِ، في السرداب القبر. إذا جلسنا على طاولة الغداء وكان التلفزيون مطفأً سوف أنهضُ وأشغله. إذا خلدنا للنوم وكان التلفزيون مطفأً سوف أنهض وأشغله. إذا أردنا الخروج من البيت وكان التلفزيون مطفأ سوف أشغله قبل أن أغلق باب الشقة بالمفتاح مرّتين اثنتين، لكي لا يمتلئ المكان بعفاريتِ الماضي. سوف أشغل هذا الجهاز دائماً وطوال الوقت ولو كان ممكناً فأنا أريد أن يدفن معي كما يفعل الفراعنة.


كبرت ونسيت ان انسىNơi câu chuyện tồn tại. Hãy khám phá bây giờ